أحداث 11 ايلول.. الصعود الى أبراج نيويورك

منصة 2021/09/11
...

 علي حسن الفواز
أحداث ايلول 2001 وضعت العقل البرغماتي  الأميركي أمام رهانات صعبة، وفي سياقِ صراعٍ افقده عنصر القوة، وحتى المباغتة، واسقط عنه اوهام السيطرة على الاخرين. هذه المعطيات الصادمة والعنيفة ارتبطت بصعود الدوغمائية الاصولية، وبقوى غامضة عمدت الى تدمير الرمزية البرغماتية للعقل  الأميركي، عبر ضرب ابراج «نيويورك» ذات الرمزية التجارية الكبيرة، وبطريقة تشبه أفلام الخيال العلمي التي دأبت العقل السينمائي  الأميركي على ترويجها، مثلما عملت الفلسفة البرغماتية ذاتها على تسويق أنموذجها ليكون مظهراً للقوة ومصدرا لتسويغ الذرائع في السيطرة، وفي تبرير اقصاء الآخر، وفي شنّ الحروب والترويخ للموضة، والجسد وللافكار الناعمة.
هذه التوجهات جعلت عملية فصل السياسة عن الفلسفة صعبة، وأكثر صعوبتها تكمن في طبيعة علاقتها الخاصة بتوظيف الفلسفة في تسويغ التعبير عن الصراعات، وفي تمثيل السياسات التي اسهمت في صناعة المركزيات الكبرى، والتي ادت الى انهيار وصعود فلسفات وهيمنات في آن معا، مثلما اسهمت في تغويل مراكز النفوذ الرأسمالي، والمخابراتي، و» الانثربولوجي» من منطلق أن العالم القديم يحتاج الى مركزية جديدة، والى «اوهام جديدة» تبدأ من مركزة الايديولوجيا والمعسكر، ولا تنتهي عن مركزة السوق ومركز البحوث وغيرها من العناوين الملتبسة.
ماحدث في 11 ايلول كان تمثيلا لتلك المعطيات، ولتوكيد مركزية القطب  الأميركي في عالم ما بعد الحرب الباردة، ولكي تكون صورة المستقبل محكومة بالعنف المسلح/ الحرب، وبالعنف الرمزي عبر الايديولوجيا والسوق والاعلام والسينما والجنس ونظام المعلومات، وحين نستعيد هذا الحدث بعد عشرين عاما، نجد أنفسنا وسط تحولات اصابت «العقل  الأميركي» ذاته، ووضعت مركزية «مابعد الحرب الباردة» أمام تحديات ساخنة وأكثر خطورة، بدءا من صعود روسيا المسلح والسياسي، وصعود الصين الاقتصادي، وانتهاء بصعود الادلجات المضادة عبر اقنعة الجماعات الاصولية، وهو ما وضع العالم امام تغيرات صادمة، وامام مفارقات لم يعد العقل  الأميركي قادرا على مواجهتها، لا سيما مع تشظي النزعة البرغماتية، التي تحولت الى ممارسة فاضحة في الانتهازية السياسية والاقتصادية والامنية، وفشل سياسات الاحتواء، او تحولها الى توجهات غامضة، اسهمت الى حد كبير في تعويم ظاهرة العنف والكراهية، وفي جغرافيات لم تكن في حساب الولايات المتحدة ولا في حساب الغرب ايضا، فما حدث ويحدث الان في افريقيا من تمدد للارهاب الاصولي، ومن فشل ذريع لحركات الربيع العربي الذي أيقظ الماضي اكثر مما فتح الافق للمستقبل وانتهاء بالفشل الافغاني.
 
ايلول وأوهام فوكوياما
تسويق حديث فرانسس فوكوياما عن نهاية التاريخ، له حمولته الايديولوجية، وله اوهامه الكبيرة ايضا، إذ جاءت أطروحته تزامنا مع بداية التفكك الاتحاد السوفيتي وفشل التجربة الشيوعية السياسية، وهذا ما جعل الترويج لفكرة نهاية التاريخ، والبحث عن منتصر جديد، يقترن بالإشهار عن القوة، وعن سيطرة السوق على العقيدة، وبداية زمن التغالب الايديولوجي، والتحرك في سياق متلازمة (انتاج الرعب النووي والرعب الفكري)، هذا المعطى ليس بعيدا عن التاريخ، فهو اعادة انتاج لثنائية هيغل الشهيرة «السيد والعبد» والتي تكرست كشكل عنصري للهيمنة، وتحولت الى مصدر لتوليد رعب فلسفي وسياسي، جعله فوكوياما وسيطا لتصديق أطروحته عن «نهاية التاريخ»، وأن يمنحها قوة ضافية، ايديولوجية ورمزية للسيطرة، ولوضع مثالية هيغل في سياق اكثر تمثيلا لـ»سلطة السيد» مقابل تهميش أي وجود لـ»العبد» بكل ما يحمله من دلالات واحالات، لا سيما تلك التي برزت في مراحل لاحقة من خلال تغول سياسات العنف والحرب في اميركيا اللاتينية، وفي دول يوغسلافيا السابقة، وفي افغانستان وفي العراق وفي ليبيا.
صناعة الرعب تعني صناعة فلسفة هذا الرعب، مقابل صناعة البراديغم الذي وجد فيه هيغل مصدر قوته، مثلما وجد فيه فوكوياما إحياءً لنزعته في انهاء التاريخ عبر السيطرة الكاملة على الآخر، إذ وجد هيغل في «بروسيا» وفي «بسمارك» ادواته للتعبير عن مثالية القوة، ووجد فوكوياما في «نهاية الحرب الباردة» فضاء لأمركة العالم، وللايهام بفرضية المنتصر النهائي الذي يملك حق كتابة نهاية للتاريخ.
 
الفلسفات والكلمات المتقاطعة
فلسفة فوكوياما المثالية، عن «نهاية وبداية» التاريخ، تحولت الى ما يشبه الكلمات المتقاطعة، عن اختيار القوة المناسبة، أو الشفرات السرية للافكار، وفي حقول بدأت تتعوّم، لكنها تتجوهر في الايديولوجيا والسياسة والامن والسوق، إذ تحولت تلك الملفات الى مصدر للرعب العالمي، وهو ما تسبب عن فشل حديث نهاية التاريخ، والبحث مجددا عن فلسفات أكثر استعدادا للمراوغة، وللاحتيال النسقي، وبعيدة عن اطروحات أخرى، أثبتت فشلها مثل «الانسان ذو البعد الواحد» لماركوز، و «صدام الحضارات» لصاموئيل هنتغتون، والتي جعلت العقل  الأميركي وحتى الغربي أمام تحديات عاصفة، لم تجد السياسات الكبرى مجالا لتطبيقها على الأرض، بفعل ضخامة الاوهام، وسعة خرائط الكلمات المتقاطعة التي تتحرك بها البرغماتية الغربية، وهذا ماجعل احداث 11 ايلول في 2001، تعبيرا عن ردود الفعل غير المتوقعة، والتي حملت معها إنذارا عن بروز قوى غامضة، وذات مرجعيات انثربولوجية أكثر تعقيدا، من الصعب السيطرة عليها من جانب، أو التعامل معها كقوى ضدية ومنافسة من جانب آخر، وحتى اصطناع لعبة الحروب الشاملة وسياسات الاحتواء التي فرضتها الولايات المتحدة، لم تكن سوى نوع من «الانفعال السياسي» أكثر من كونه مقاربة ايديولوجية للعقل الآخر. 
لقد انتجت مرحلة ما بعد ايلول 2001 واقعا ملتبسا في ادارة السياسة وتداول المفاهيم، وهذا بطبيعة الحال حمل معه مجموعة من الاجراءات التي انعكست على صناعة القرار، وحتى على اعادة انتاج (الثقافات) والرسائل الاعلامية والتعاطي مع مفاهيم كانت الى حد قريب تحوز على اصوات مؤيدة لها، لكنها سرعان ما تحولت الى نوع من (البروباكندا) الرديئة للمشروع  الأميركي الجديد، عن الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية والتجارة الحرة والحياة المدنية وغيرها، والتي دخلت الاستعمال من حيث جزء من فكرة الهيمنة الثقافية للخطاب  الأميركي.
إنَّ التحول داخل المؤسسة الأميركية السياسية كان اشبه بالتحول الى سوق حر لانتاج الشفرات التي تحمل مرموزاتها اسرارا بشأن اشكال مثالية وغير واقعية عن شكل الصراع وانتاج الدولة وتداول مفاهيم المجتمعات الجديدة، اذ رصدت المراكز البحثية خطب واحاديث الرئيس  الأميركي الأسبق جورج بوش الخاصة بالشرق الاوسط وتسويق مفاهيم الديمقراطية والمجتمع الحر، من خلال متابعة هذه الخطب في الموقع الالكتروني للبيت الابيض، فالرئيس  الأميركي استخدم كلمة ديمقراطية (1012) مرة للمدة من سنة 2001 ولغاية 2005 وكلمة الحرية والمجتمع الحر (823) مرة، بينما خفتت هذه النبرة خلال عام 2006 اذ ذكرها (11) مرة فقط ، ولا شك أن هذه الترسيمة الدعائية والاعلامية تعكس هوسا في اعادة تشكيل خارطة المنطقة، على اساس رسم صور عائمة بعيدة عن التعاطي مع جوهر الصراع ذاته،  والذي كان الرؤساء الاميركان السابقون يدركون خطورته، خاصة في نقد طبيعة الانظمة السياسية في المنطقة والتي ذاتها التي تدير الشأن السياسي في بلدانها، حيث تقول ذات الاحصائية ان هؤلاء الرؤساء الاميركان قد وجهوا نقدا للاوضاع السياسية في الدول العربية والاسلامية بحدود (127 ) مرة للمدة من 1973 ولغاية 1980. هذه الانتقادات كانت تنطلق من تصورات معينة للديمقراطية والاصلاح الاجتماعي في اطار ما كانت تمليه شروط وتخندقات الحرب الباردة بين اميركا والاتحاد السوفيتي، رغم ان بعض هذه الانتقادات قد تحولت الى تدخلات مباشرة، الاّ انها كانت محدودة جدا.
 
تداعيات ايلول والسياسة  الأميركية
 
إنَّ تداعيات ما بعد (عصر ايلول) كشفت عن واقع مغاير، على مستوى النظر الى الايديولوجيا وخطورتها، وان نهاية الاتحاد السوفيتي السابق لا تعني نهاية التاريخ، او على مستوى العلاقات مع الدول الاخرى في الغرب والشرق، وحتى بين الجماعات داخل تلك الدول، وهو مادفع الى اعادة النظر بسياسات الهجرة والاندماج وقانون المواطنة والجنسية وقانون العمل، واخضاعها الى اجراءات أكثر تشددا وتعسفا، لا سيما في الدول التي عرفت تاريخا من الهجرات الكبيرة، ومنها الولايات المتحدة.
إن ما حدث بعد احداث ايلول وجد مجاله في ادارة الصراع والسياسة والايديولوجيا، إذ كشف عن تشوش «المخيال  الأميركي» إزاء طبيعة الثقافات الأخرى، مثلما كشف عن أوهام أكثر غلوا، لا سيما ما يتعلق بـ «صناعة الاعداء» والعمل على حصارهم واحتوائهم، وهو ما أثبت فشله، وعجره، فالدور الأميركي في احداث «الربيع العربي» أسهم في بروز الاصوليات من جديدة، واعطائها نوعا من الشرعية السياسية، فضلا عن دور هذا الربيع الافتراضي في تفكيك منظومات عدد من الدول التقليدية، كما في ليبيا وسوريا واليمن.
مقابل ذلك اسهم هذا الحادث الكبير في صعود موجة ايديولوجية في الولايات المتحدة والغرب لما يسمى بـ «الهيغليين الجدد» على مستوى اعادة انتاج أطروحة «السيد والعبد» او على مستوى اقتراح نظام اجتماعي وثقافي، يبدأ من اعادة انتاج الخطاب الثقافي والاعلامي والايديولوجي/ العقائدي، وصولا الى الخطاب العسكري/ فرض نظرية القوة، والتي هي تكرار لما طرحه هيغل، الذي كان يتأمل صعود نابليون بونابرت، وظهور شخصية قومية مثل بسمارك، حيث العمل على صياغة نظرية (المركز القوي)، وربما اجترحه الرئيس  الأميركي السابق جيفرسون والرئيس  الأميركي الآ خر هاري ترومان صاحب القنبلة الذرية في هيروشيما وناكازاكي.
إن الحدث أكبر من الواقع، وبقدر ما أنه كان صدمة كبيرة، فإنه دفع العقل  الأميركي الى مغامرات فيها كثير من سوء التقدير، ومن التشويش الايديولوجي والسياسي، لا سيما ما يتعلق بالنظر الى الصراعات المعقدة في العالم، والتعاطي مع الآخر، إذ كانت مسميات (الشرق الاوسط الجديد ) و(خارطة الطريق) و(الاحتواء) مثارا للغط واسع، لم تنفع معه النبرة القوية، حول تداول مفاهيم الحرية والديمقراطية والتعددية وغيرها، كما أن العمل على سياسات التطبيع، والتفكير البرغماتي بـ «صفقة القرن» وتضييق الخناق على ايران، أكدت ضعف هذا المسار الذي اصطدم بحروب صادمة، في لبنان وفي غزة، وفي اليمن، وفي ليبيا وفي سوريا، والتي كشفت عن العجز وسوء الادارة، وعن أن معطيات احداث 11 ايلول لم تنته بعد.. ولعل من ابرز تداعياتها كان الانسحاب  الأميركي من افغانستان وعودة طالبان للحكم، إذ عكست هذه العودة ما يشبه «الزمن الدائري» فطالبان التي اقصيت عام 2001 عادت اليه عام 2021 مع امتيازات سياسية، وبروبنكدا مضادة للهيمنة الأميركية، ولوضع العقل الأميركي أمام اخطار رمزية، قد تنسحب الى ذاكرة نيويورك الفاجعة، والى الظروف التي تسببت في العمليات الانتحارية على برجي التجارة الشهيرين في
 مانهاتن.
لقد افرزت مرحلة ما بعد (عصر ايلول) عالما فاقدا للاطمئنان، عالما يبحث عن أوهام السلام، وعن حلول لازماته المعقدة في الوجود والمعيش، اذ يعيش العالم الغربي المحمي باحدث التقنيات أعراض (هستيريا الارهاب) وموجات الهجرات الجماعية، وسط اجراءات اكثر رعبا، عبر غلق الحدود الدولية، وعبر سياسات ذات نكهة عنصرية، والتي قد تُسهم في ابقاء العالم عند حافة اخطار شتى، ومنها اخطار صناعة الرعب والصعود مجددا الى الابراج الرمزية في اميركا والغرب.