فعل اللغة ومركزيّة الكينونة

منصة 2021/09/12
...

أ.د. مها خيربك ناصر

إذا كانت كينونة المكان الجغرافي التي تشكل العامل الأساس في تكوين مركزية الانتماء القومي وجودا بالإذا كانت كينونة المكان الجغرافي التي تشكل العامل الأساس في تكوين مركزية الانتماء القومي وجودا بالقوة، فإن اللغة هي الوجود الفاعل الذي يكسب هذه الكينونة هويتها، ويمنحها خصوصيتها، ويحرّضها على إنتاج ثقافة المكان، هذه الثقافة التي تتخذ أنماطا لا تتناقض وشخصية الكيان، وذلك مهما
تنوّعت أشكال الثقافة وقضاياها العلمية والأدبية والفكرية الاقتصادية والاجتماعية  والسياسية والجغرافية والتاريخية وغيرها من القضايا الإنسانية التي تحتاج في تجسيدها إلى لغة تتبنّى نقل الفكر من كمون سكوني إلى حضور
فاعل.
بهذه الرؤيا تكون الثقافة نتاجا معرفيا، لا تقتصر مهمتها على التقويم بقدر ما تسعى إلى تكريس قيم المجموعات الإنسانية ثوابت قابلة لإنتاج عدد لا متناه من المتغيرات الفكرية والمعرفية والحضاريّة، وتبقى حياة هذه المتغيرات وقيمتها وقدرتها على التوليد مشروطة بوجود لغة حيّة قادرة على احتواء نتاج كلّ تجربة جديدة تختزل خلاصة الحوار والصراع والتصادم والتفاعل والتواصل، وتحفظ سلامة المنتج، وتضمن فاعلية صلاحيته في الحاضر 
والمستقبل.
 تكمن وظيفة اللغة الأساس في نقل العملية الفكرية، ضمن المجموعة الواحدة، من رمزية التصور إلى ظاهر الصورة، فيصير المحتجب ظاهرا خاضعا للقبول والرفض والتأويل والتفسير والحوار والتفاعل والخلق والتوليد، فتكون اللغة، بذلك، مظهرا من مظاهر النشاط الذهني، ومختبرا لكلّ الحركات الفكريّة، وحضورا إنسانيا تتمظهر من خلاله الخصوصية القيميّة لهذه المجموعة التي تعارفت وتواصلت بلغة ضمنت  تأصيل الحضور الفاعل، والمحافظة على حركاتها وأنشطتها و صراعاتها وثقافاتها وتاريخها وحضارتها، بما يؤسس لمستقبل سياديّ للأجيال القادمة، وفق ما تفرضه شروط الكينونة ومركزيّة الانتماء وسمات خصوصيّة الهوية 
القوميّة.
تتمايز الأمم الحيّة بتراث فكريّ وثقافيّ وحضاريّ ينقله الخلف عن السلف بلغة قومية تحفظ إرث الأمّة ونتاجها وأشكال نهوضها ّالمعرفيّ والعلميّ وطبيعة تياراتها السياسية والاجتماعية والفلسفية وغيرها، فإذا انقطع مجتمع ما عن لغته انقطع عن جذوره وانتمائه وكيانه المعنوي، وتغرّب عن أصالته، وفقد قدرة التواصل مع تراثه وتاريخه؛ ولما كان التاريخ توأم الجغرافيا، فإن جغرافية المكان عينها قابلة للتغيير والتشويه إذا ضعفت عملية التواصل اللغويّ، لأن خسارة اللغة التي تحفظ الحقائق وتصون قيم الجماعة وتعزّز الشعور بالانتماء هي خسارة كبرى على مستوى الوجود والكيان والمصير 
والكرامة.