الانتخابات النيابيَّة.. المرتجى والمأمول

منصة 2021/09/17
...

  د.أحمد قاسم مفتن*
يعـد الشعبُ صاحب السيادة في النظم الديمقراطية، وهو مصدر الصلاحيات الممنوحة للسلطة، ففي حكم الممثلين أو المندوبين، يضعُ الشعب صلاحية اتخاذ القرارات في الشؤون العامة في أيدي ممثلين اختارهم في انتخابات ديمقراطيّة. ويعبر الشعب في تلك الانتخابات عن تأييده ودعمه لأحزابٍ أو كتلٍ أو مرشحين مستقلين، يتنافسون في ما بينهم على السلطة والإمساك بزمام الحكم، وبهذا تعكس الانتخابات الآراء المختلفة القائمة لدى الجمهور وما يفضله المواطنون.
وفي حال شعر الناخب أنه لا توجد أمامه إمكانيّة حقيقيّة للتأثير في الحياة العامة، وإذا شعر أنه ليس أمامه اختيار حقيقي بين بدائل مختلفة، أو أنه ليس بإمكانه التأثير في تركيبة قائمة المرشحين وفي آرائهم، ينحسر ميله للمشاركة في الانتخابات.
 
 أجرى العراق بعد العام 2003، أربعة انتخابات برلمانية وكانت نسب المشاركة فيها تنازلية، إذ بلغت أعلى نسبة مشاركة مع بداية أول انتخابات في العام 2005، وبدأت بعد ذلك نسب المشاركة بالانخفاض حتى وصلت إلى أدنى مستوياتها في انتخابات العام 2018، إذ كشف في وقت سابق المعهد الدولي للديمقراطية والانتخابات IDEA، عن مخطط شامل يوضح نسبة المشاركة والتصويت بحسب كل دورة انتخابية، وأشار الى أن انتخابات العام 2018 قد سجلت أدنى مشاركة وبنسبة (44,85 %) من مجموع من يحق لهم التصويت، بينما بلغت نسبة المشاركين في العام 2014 نحو (60 %)، في حين جاءت نسبة المشاركة في العام 2010 بواقع (62,4 %)، وعند العام 2005 كانت قد بلغت ذروتها وبنسبة (79 %).
 
ثقة العراقيين بالانتخابات 
 تشير تلك النسب وتكشف في الوقت ذاته عن مدى ثقة العراقيين وتعويلهم على مخرجات الانتخابات، أو عدم ثقتهم وتعويلهم، كما تشير أيضاً إلى التحول من الأمل والثقة إلى الاحباط وخيبة الأمل. حيث بدا الحلم كبيراً بأن الديمقرطية من شأنها تحقيق مطالب وآمال وطموحات العراقيين، لا سيما بعد الخروج من حقبة النظام الاستبدادي إلى التنوع والمشاركة بالسلطة من قبل الجميع. وبعد كل دورة انتخابية كنا نشهد عمليات تقييم ونقد، كان العراقيون وعلى مدار أربع سنوات (لا سيما في الدورتين الأولى والثانية) كانوا يقيمون البرلمان والحكومة (خدماتياً ومؤسساتياً)، لكنهم في نهاية المطاف كانوا ينتخبون (جماعاتياً)، أي ينتقدون من قام بماذا وكيف، لكن بعضهم كان يفكر وللأسف على طريقة القائل (نبي من عندنا (جماعتنا) خير من نبي قريش). لم يجنوا من ذلك شيئا سوى خيبات تترى، وعض أصابع الندم. فأخذت نسب مشاركتهم بالانخفاض، لذا أخذ البعض بالاعتقاد أننا سنشهد نسبة مشاركة ضعيفة في الانتخابات المقبلة، وقد تسهم ذلك في القدح بمخرجات الانتخابات وتخدش شرعيتها. 
 مهما بلغت نسبة المشاركة من تدنٍ فهي لا تمثل هدفاً بحد ذاته، كما أنها لا تمثل الحل لإحداث التغيير المنشود للخلاص من المحاصصة والفساد وتقديم الخدمات وتعزيز قوة الدولة والمؤسسات ورصانتها. نحن أمام مرحلة بالإمكان تسميتها مرحلة (صراع التغيير والبقاء)، بقاء القوى التقليدية القائمة على عصبة الجماعة (دين/ قومية، عشيرة/ حزب) والتي تهيمن على المشهد السياسي وتعمل لإدامة سلطتها ومكانتها (كزعامات وكأعضاء جماعة)، وبين قوى التغيير القائمة على عصبة الوطن (تكنوقراط/ مستقلون/ خبراء ومهنيون ونزيهون).
 ليتحقق التغيير فالمشاركة خير، بل من دونها فوز أكيد لقوى (البقاء)، لذا توجب البحث في خصائص المرشحين وميزاتهم لاختيار الأصلح. يصف خبراء الشخصية بصورةٍ ميسرةٍ أن السمات الشخصية للمرشحين تتمثل «كانطباع قوي ينشأ في عقول الناخبين حينما يفكرون بسياسيٍّ محددٍ لانتخابه». والانطباع هذا يعدُّ نوعا من أنواع الصورة الذهنية المفضلة لديهم، إذ تشير أغلب الدراسات العلمية المتخصصة بشؤون الانتخابات إلى أنّ الشخصية السياسية - في أكثر الحالات- يجب أن تتطابق مع التطلعات الاجتماعية للجماهير، فنظام الآمال والتوقعات والمطالب الخاصة هو ما يعيّن معايير قيام السياسي بالوظائف الاجتماعية المنوطة به، وتحقيق الآمال المعقودة عليه، ومدى اتساق عمله مع تلك المعايير. فهي نوع من أنواع العقوبات والتفضيلات الاجتماعية التي تحدد نظام العلاقات بين الناخب والمرشحين، وتتجلى في شكلين، هما: حق الجماهير في انتظار السلوك المناسب، والتزام السياسي التصرف بما يتناسب مع الآمال الاجتماعية.
 والآمال الاجتماعية تلك تتشكل على قاعدة «التطابق مع ما هو مؤمَّل» أو عدم التطابق. وعدم التطابق هذا يمس عادة عمل السياسيين والقادة، وكلما كان عدم التطابق أكبر كانت الرغبة أقوى في اختيار سياسيٍ آخر. وهكذا، فإنّ قيُّم نشاط السياسي (المعين سلباً، يسعى إلى اختيار سياسيٍ آخر يتمتع بصفات يمكنه، من خلالها، توفير النشاط الذي يلبي رغبات جمهور المصوتين)، تكون تلك الصفات عادة متناقضة مع صفات السياسي السابق الذي جرى تقييمه سلبا من قبل الجمهور، وعلى هذا النحو يجب أن تقع الشخصية السياسية في الوسط بين الآمال الاجتماعية وشخصية السياسي الجديد.
 ومن ثمّ، يصبح من الضروري أن تتناسب صفات السياسي أو القائد المرتقب مع الآمال الاجتماعية. لكن لا بدّ من التذكر أن «تحرك» الشخصية في هذا الاتجاه أو ذاك مرتبط إما بقوة ظهور الشخصية وإما بالآمال الاجتماعية التي يفضلها الجمهور ويعبر عنها (المجرب الفاسد ومخيب لآمال الجماهير لا يجرب).
 
الحلول وتطلعات الناخب 
 من جانب آخر، وفي السياق ذاته، تمثل البرامج الانتخابية مجموعة حلولٍ «مقترحةٍ» لمشكلاتٍ «قائمةٍ» تنبع من نظرةٍ ستراتيجيةٍ أو خط سياسيٍ للمرشح تجاه القضايا العامة التي تهم الجمهور، وهي عبارة عن أنشطةٍ يقوم بها المرشح لاطلاع الناخبين على شخصه وأفكاره بهدف الحصول على أصوات الناخبين، لذا ترتكز البرامج الانتخابية إلى الوعود، وتمثل مضامينها محور الرسائل الاتصالية لجذب الجمهور، وبهذا وجب أن تكون ملائمة لتطلعات الجمهور واحتياجاته، وظروف الدائرة الانتخابية التي يتنافس فيها المرشح، وإلا فإنه سيخرج من دائرة اهتمام الجمهور وتفضيلاته وبالتالي عدم انتخابه.
 فلهذا يجب تنظيم أفكار المرشح وبرنامجه الانتخابي على وفق طبيعة المشكلات الأكثر إلحاحاً في الدائرة الانتخابية، فلو تساوت مشكلتان في درجة الإلحاح يتم البحث عن أكثرهما التصاقاً بالناس وتأثيرها في حياتهم، فمثلاً قد تتساوى أهمية الصحة والتعليم في الإلحاح، إلا أنّ توفير الخدمات الصحية قد يكون أكثر إلحاحاً من إنشاء مدارس جديدة بالمنطقة، وبذا يجب أن يركز المرشح على مجموعة قضايا بعينها وهي القضايا التي تمثل حد الأزمة الفعلية في الدائرة الانتخابية أو على المستوى الوطني، ليبدو أنه مهتم بما يمكن أن نطلق عليه «إدارة الأزمات المحلية»، فإذا ما نجح المرشح في إقناع الناخبين بقدرته على تشخيص الأزمات المحلية والوطنية ومن ثم كيفية إدارتها، فإن ذلك سيكون - بلا شك- عاملاً رئيساً في فوزه.
 ولعلّ من أهم مراحل صياغة البرامج الانتخابية وكشف أولويات الجمهور بشأنها، مرحلة استطلاع رأي الناخبين، إذ تمثل هذ المرحلة أكثر المراحل أهمية لأنها تهدف إلى اختبار البرنامج الانتخابي من خلال التواصل مع الجمهور والتعرَّف على تفضيلاته وأولوياته. وهنا جاز لنا التساؤل إن كان المرشحون قد بادروا إلى استطلاع آراء جمهورهم في الدوائر الانتخابية المرشحين فيها، لغرض التعرف على أولويات مطالب الجمهور بحسب كل دائرة انتخابية؟ أم جرت كتابة برامج انتخابية شعاراتية الطابع وغير واقعية، ولا تلبي طموحات ومطالب الجماهير. بل جاز لنا التساؤل أيضاً إن كان المرشحون يؤمنون أصلاً بأهمية استطلاع آراء ناخبيهم بشأن برامجهم الانتخابية بحسب كل دائرة للتعرف على الأولويات والتفضيلات، أم لا؟.
 توفّر الثقافة الديمقراطية نوعاً من الإيمان بجدوى المشاركة والتسامح السياسي والفكري وتوفر روح المبادرة، واللا شخصانية، والثقة السياسية، ولغرض حسم الجدل واللغط بشأن رأي العراقيين وقرارهم بتكرار انتخاب شخصياتٍ سياسيةٍ مشاركةٍ في السلطة حالياً من عدمه، فإن موعد الانتخابات هو الفيصل، إذ لا تصح المطالبة بالتغيير من دون فعل يحدث التغيير.
 توصف الإصلاحات الانتخابية بأنها تغيير في النظم الانتخابية لتحسين طريقة التعبير عن الرغبات العامة في نتائج الانتخابات. ويعد الحق في تغيير القواعد جزءاً من التعريف الأساس للديمقراطية، ولا تخلو النظم السياسية من العيوب، لذا يتم تشخيص العيوب المرافقة للعملية الانتخابية، ويتم السعي إلى الإصلاحات الانتخابية لتحسين عمل السياسة، وعلى نحو أسرع إلى حد ما. كما تميل حلول مشكلات الديمقراطية إلى أن تمثل «المزيد من الديمقراطية»، إذ يعد الإصلاح الانتخابي ميزة دائمة لأي نظام ديمقراطيٍ صحيٍ، ولصوغ نظام انتخابيٍ يحظى برضا الجمهور، من المستحسن دائماً وضع لائحة بالمعايير التي تلخص ما يراد تحقيقه أو تجنبه. حيث مثل تغيير قانون الانتخابات وتشريع قانون الاحزاب، وتشكيل مفوضية جديدة بآليات مغايرة، فضلاً عن تطوير سجل الناخبين وإصدار البطاقات البايومترية نوع من الاصلاحات، التي من شأنها أن تزيل التكلسات من العملية السياسية وتمنع الانسداد وتنتج تغييراً إيجابياً فيها.
 
آمال مخبوءة 
 لذا يطرح السؤال التالي نفسه بإلحاح ليعبر عن خيارات المرتجى والمأمول لدى العراقيين من الانتخابات المقبلة ومخرجاتها. ما أبرز ما يأمله العراقيون بأن تحققه نتائج الانتخابات النيابية المقبلة؟ ربما سيكشف السؤال الحالي عن آمال وتطلعات مخبوءة، لا نتمكن من التعرف عليها سوى في العاشر من الشهر المقبل، إذ سيماط اللثام عنها وستبدو واضحة ومن دون تكهن أو استنتاج، إلا أننا راهناً نبدو مجبورين على الغوص في بحر الاحتمالات والتكهنات بذلك المأمول والمرتجى. فهل يأمل العراقيون أن تحقق الانتخابات المقبلة (صعودا كبيرا للشخصيات المستقلة والكفوءة وغير المنتمين لجهة (تكنوقراط)، أم عدم تكرار السياسيين المتواجدين بالسلطة حالياً بغض النظر عن البديل، أم صعود كبير لشخصيات أو تحالف يمثل شباب تشرين والتظاهرات، أم أن يبقى الحال على ما هو عليه حالياً، ومن دون تغيير يذكر، أم أن تحافظ الأحزاب الكبيرة على تمثيلها مع تغيير أعضائها بوجوه جديدة، أم صعود كبير لشخصيات أو تحالف يمثل الحشد الشعبي.
 تكشف نتائج السؤال السابق وجها من وجوه صراع البقاء والتغيير المأمول حسمه عبر الانتخابات المقبلة، وبشكلٍ جلي بين الاحزاب والقوى التقليدية المسيطرة على العملية السياسية حالياً، وبين قوى التغيير المرتجى حضورها وصعودها عبر الانتخابات المقبلة. 
 إن نجاح الحكومة، كشأن أي مهمة معقدة في الحياة، مرهون بالكفاءة والخبرة، والمعرفة والفعالية، وهذ العوامل تكتسب غالباً مع مرور الوقت، وتقيَّم أيضاً مع مرور الوقت، لذا تحتاج إلى تعديل وتطوير وانتقال من نوع أثبت فشله إلى نوع آخر يمتلك عناصر أوفر للنجاح وتحقيق الفاعلية. ولا يمكن انتاج حكومة تمتلك عناصر النجاح وتحقق الفاعلية من دون انتخاب ممثلين فاعلين أكفاء ومتخصصين.
* باحث واكاديمي