قانون الحب

منصة 2021/09/18
...

  نهى الصراف
 
حال مغادرتي المنزل، كنت وصلت في جولتي الثانية حول حديقة الحي في الدقيقة العاشرة؛ طقس رطب وسماء مبللة بندى الغيوم الثقيلة. لم تكن شمس لندن قد أعدت عدتها للخروج هذا الصباح فهي تعاني من داء المفاصل بسبب برودة الطقس وسخونة الأخبار. في هذه اللحظة تحديداً كانت (أغنيثا فلتسكوغ) من فرقة (آبا) تصرخ بكامل كبريائها وهي تقول لحبيبها: «لا أرغب في الحديث عن أشياء مررنا بها.. رغم أنها تؤلمني فقد أصبحت من الماضي...».
عجيب أمر هذه الفرقة السويديَّة التي سحرت العالم قبل عقود طويلة لا أتذكرها، كيف كان ( أولفايوس) و(أندرسون) يكتبان الكلام بإنكليزية مذهلة بينما أفكارهم التي تقبع في رؤوسهم تبقى على محليتها السويديَّة. محاولتهم للانتشار عالمياً لم يكن ليكتب لها النجاح لولا سحر الكلمات الإنكليزية؛ ساحرة لأنها كثيرة الشبه بلغة الإشارات فالجميع يتحدث بها ويفهمها 
ابتداءً بإنسان الكهف في الأفلام القديمة وانتهاءً بجيل كورونا الذي لا شغل له سوى أنْ يتسمرَ كل مساء أمام شاشات التلفزيون والكومبيوتر.
قبل أنْ أكمل الجولة الثالثة وبينما كانت أغنيثا تقول باستسلام واضح: (لعبت بكل أوراقي.. وهذا ما فعلته أنت أيضاً، ليس هناك المزيد لقوله، .. الفائز يأخذ كل شيء والخاسر يقف صغيراً إلى جانب المنتصر.. هذا هو قدره)!.
يا للعجب، هذا استسلام مميت.. كيف يمكن للإنسان أنْ يقف ضعيفاً هكذا أمام من ينتصر عليه، ولا يرد الإهانة له حتى ولو بقضمة من كتفه المتعجرفة؟.. ربما حقق قانون الحب ذاك الكثير من الانتصارات على ضحاياه، القانون الذي يسمح لأحد الطرفين بحمل صندوق الهزيمة لوحده ثم الانكفاء في زاوية باردة من الكون ليذرف ما تبقى من دموع الكرامة المهدورة.
أما اليوم، فالأمر مختلف بالطبع، إذ إنَّ هناك المزيد من تطبيقات التقنية المذهلة التي يمكنها أنْ تزيل الحبيب الغادر من شاشة الهاتف بكبسة حظر. عظيم جداً هذا الاختراع وإنساني إلى حد بعيد، عندما تمحى بيانات الشخص المنتصر من الهاتف فتنهي ملامحه وعجرفته وجنوحه إلى الأبد، ويمكن للخاسر بعد ذلك أنْ يعاود ممارسة حياته الافتراضيَّة والبحث عن بدائل في تطبيقات أخرى.
هذه الفكرة مغرية جداً، من واجبنا أنْ نعلم أبناءنا أسرارها، أو لعلهم لا يحتاجون إلى معلم. من يدري 
(ذه وينر تيكس ات أووول) لا .. لا يمكن أن يحصل المنتصر على كل شيء.
في الزاوية الرابعة من الحديقة وقبل أنْ أصل لموقع الشجرة العظيمة، لمحت صاحب الكلب، الرجل الستيني الذي يقضي نصف نهاره جالساً على مصطبة رطبة وهو يكرع قناني عديدة من المشروب ويتمتم ببعض الكلمات غير المفهومة.. باغتني كعادته (كَود مووووننيغ)! استدرت بدون أنْ أتوقف لأرد المووورننغ من خلف كمامتي.. بعد أنْ ابتعدت خطوات قليلة أرسل تحيته الثانية (ميري كريسماس)! لكنه أدار وجهه للناحية الثانية ولم ينتظر الجواب. أي كريسماس هذا الذي يتحدث عنه؟ أعياد الميلاد ورأس سنة هذا العام الملتبس سيقطعها الناس داخل منازلهم الرطبة المغمورة بالشيكولاتة وأفلام نتفليكس، وهم يلاحقون شبح الفيروس المتواري خلف ابتساماتهم الشاحبة.
ميري كريستماس! يا لسخافة الرجل صاحب الكلب وقناني الشراب الفارغة..
عموماً، لن أواصل المشي، ربما في يوم آخر، فقد أكل البرد مفاصلي.. وها أنا قد قطعت الاتصال بأغنية (آبا) ولم أتحقق جيداً من كلمات النهاية، لكنْ لا بأس فأنا أحفظها عن ظهر قلب. كانت ستقول في النهاية (هناك شي في أعماقي.. تعرف أنه ما زال يفتقدك....).