انثروبولوجيا الخطاب الانتخابي

منصة 2021/09/19
...

  د. عدنان صبيح
العلاقة بين المجتمع وبين الانتخابات تأخذ اوجها متعددة، ومعرفة تلك الأوجه بطريقة علمية تساعد في فهم المرحلة التي نعيشها، مفسحة المجال لانتاج سياقات لحل مشكلاتها، ولذلك تنوعت الدراسات المهتمة بالانتخابات ما بين دراسات تفسر العلاقة المجتمعية بالعملية الانتخابية، وبين دراسة الجماعات والقوى وعلاقتها بالديمقراطية، فضلا عن معرفة العلاقة الرابطة بين الرموز الثقافية والعلامات والقوانين المجتمعية، والألوان المهمة في الثقافة، التي كان لها دور في تحديد شكل العلاقة بين المرشحين للانتخابات وبين المجتمع، لأنها تكتشف ان المرشحين المتوافقين مع الأهداف المجتمعية والتي ترجمت على شكل شفرات ثقافية هم الأكثر حظوظا في الانتخابات. بل وان الدعايات التي تمارس مهمة استعادة الرموز الثقافية، سواء كانت المتعلقة منها بالشعار او عدد الكلمات هي الأكثر ذكاء من غيرها، كونها تدخلت بالجوانب الشعورية للمجتمع وخاطبت مدركاته الاجتماعية. 
 
وهذا جانب مهم من انثروبولوجيا الانتخابات الذي ربما هو لم يأخذ الاهتمام الكافي، وليس فقط من المرشحين للانتخابات، بل أيضا من قبل الباحثين في العلوم الاجتماعية، وهو مدخل مهم للوقوف على أفضل الطرق في الدعايات الانتخابية وأكثرها تمثيلا، والقادرة أيضا على التنبؤ بالصورة النمطية الأكثر وجودا في البرلمان العراقي. وهي لا تعني التوقع العالي الذي يخالف الديمقراطية، وانما يسهم في رسم سياسات إعلانية للمرشحين، تعتمد على الصورة الثقافية التي تمثل مشاعر واهتمامات المجتمع. 
وهناك دراسات تسعى الى تفسير تحولات القوى الاجتماعية، وربطها بالسياقات السياسية، مفككة العلاقة الخطابية بين تلك الحركات والاستجابة من الجمهور. وكيف يمكن انتاج خطاب متمايز عند كل جهة مع المحافظة على الأطر الثقافية التي ينتمي اليها الجميع.
 تُعَدُّ انتخابات 2021 أو ما تُسَمَّى بالانتخابات المبكِّرة في العراق مختلفة عن أيِّ عمليَّةٍ انتخابية أجراها العراقيُّون منذ 2003، ليس من ناحية تبكيرها عن موعدِها الرسمي أو إجرائها بضغطٍ جماهيري، بل من ناحية وجود تشكيلات جديدة لا تنتمي إلى المرحلة التي قبلها، فضلاً عن انقسام القوى التقليدية وتغيير جلد عددٍ منها، ولا يقف الاختلاف عند هذا الحد، بل إنَّ القوى الكبرى والمنظمات الأممية تنظر إلى تلك الانتخابات بعين توجيهية وتحليلية، تلك العين تريد أن تكون موجودة، سواءً بالإشراف أو المراقبة.
 انتجتِ المرحلة الأخيرة العديد من التشكيلات تعود أغلبها أو حسب ما تُشير إلى قوى الحراك الاجتماعي، استناداً إلى خيار تكوين قوائم الذي طالبت به المرجعية الدينة وقوى سياسية وثقافية، إذ أشارت المرجعية في إحدى خطبها (يأتي الدور للنخب الفكرية والكفاءات الوطنية الراغبة في العمل السياسي؛ لتنظم صفوفها وتعد برامجها للنهوض بالبلد وحلّ مشكلاته) فتشكلت قوى جديدة تسعى الى ممارسة العمل السياسي من خلال الانتخابات، منافسة القوى التقليدية منتجة خطابا مغايرا يوائم الحركات المطالبة بالتغيير. توزعت بين محافظات عدة ولم يقتصر وجود القوى الجديدة على محافظات بعينها. 
ولم تكن تلك التغيرات خاصة بجماعة دون أخرى، او بالأحرى لم يعترف أصحابها على انهم جماعةً شيعية او سنية، ويعود ذلك إلى عدد من الالتزامات، التي فرضت ذلك أهمها الطرح الجديد الذي لم يتعاطَ مع شعارات مذهبية (خطابياً على أقل تقدير)، على الرغم من أنَّ وجودها الجغرافي، وعلى الرغم من ذلك هم فضلوا شعارات وأسماء لا تقترب طائفيا فضلا عن التذكير بمرحلة الاستقطاب الطائفي وإخفاقاتها، فضلاً عن التلميح باللوم على الطبقة السياسية التي مارست ذلك الاستقطاب.
 تناغمَ مع ذلك الخطاب عدد من الأحزاب التقليدية التي غادرت الخطاب القديم وانتقلت إلى خانة نطلق عليها خانة المتغيرين، وهي تشمل الأحزاب التي انتمت إلى التقليديين وغادرت المنهج محاولة التجديد في السياقات التقليدية.
بينما حافظت قوى اخرى على سياقها الترويجي وأسماء قوائمها، في تحد واضح لمحاولات التغيير، ويتمثل خطابهم بالإصرار على العناصر الخطابية السابقة والإبقاء على أسماء القوائم؛ لأنَّهم يرون في مغادرتها تنصلاً عن المرحلة السابقة، والتنصل ليس من صالحهم؛ لأنَّه مرتبط بشعارات الذين أعلنوا البراءة عن المرحلة السابقة وإخفاقاتها. 
 وبذلك فإنَّ هناك تنافسين في الانتخابات القادمة ويمكن أن يكون واضحاً عن طريق العناصر الخطابية المتمثلة بالترويج والتسمية والايقونات الانتخابية، الأول هو بين القوى الناشئة التي تريد أن تكون لها قدم حقيقيةً في العملية السياسية، ووجودها في مناطق القوى التقليدية يجعلها تأخذ من أصواتها، ممَّا يدخلها في تنافس معها.
 أمَّا التنافس الاقوى على الاستحقاق الانتخابي فهو بين القوى التقليدية بشقيها المحافظين والمتغيرين، ويكمن التنازع على السيطرة لتقارب الحظوظ بين طرفي ذلك التنافس.
 كان ذلك هو السياق السياسي في العراق في الفترة التي رافقت إعلان القوائم للترشيح للانتخابات، إذ برزت عدد من القوائم الانتخابية مكمِّلة للدور الذي يقوم به المتغيرون، بل إنَّ أغلبَها كانت جزءاً من الأحزاب وتيارات المتغيرين، ذات الميل نحو التشكيلات الجديدة وأسلوبها التغييري، فربما من ناحية تحليلية يكون انشقاقها هو إيجاد وسيلة ارتباط مع المطالبين بالتغيير، بطريقة تمنع حرج الانضمام من قبل الطرفين، وتقلل من صيغ الخلاف والافتراق.
وعلى الرغم من انطلاق بعض الأحزاب الجديدة في محافظات معروف انتمائها لجماعات معينة، إلَّا أنَّها تصرُّ في خطابها على الابتعاد عن الصبغة المذهبية، ولذلك صنعت لخطابها سياقات تبتعد عن الطائفة أولها الاسم والشعار، الذي عادة ما يحتوي على ألوان يتفق عليها جميع العراقيين ولا دلالة مذهبية فيها، فضلاً عن إصرارها بصورة مستمرة على وطنيتها سواء التصريح بصورة مباشرة او التلميح.
بينما يتوافق في العادة خطاب التشكيلات التي خرجت من الأحزاب القديمة مع خطاب القوى المشكلة حديثا، من ناحية مخالفة الأحزاب التقليدية وتوجهها للحكم، إلَّا أنَّه لا يسير معهم في اتجاه واحد، فإنَّها تنتج خطاباً سياسياً أكثر من كونه خطاباً تغييريا، إذ إنَّها في الوقت الذي تطالب فيه القوى الجديدة بالمنافسة القوية للتغيير، تدعو المنبثقة عن القديمة تشكيلاتها للمشاركة في الانتخابات للوصول الى نظام أكثر ملاءمة للديمقراطية العراقية.
تمارس في ذلك لعبة دبلوماسية، في السياسة عادة لا تحبذ بعض الاطراف إلى مقاطعة الاتجاهات الأخرى، تشبه في ذلك (هيرمز) في الأساطير اليونانية رسول الآلهة، ذي الذكاء المخادع وهو في موقف الوسيط بين الآلهة والبشر، شخصية أسطورية تشبه شخصية السياسي.
 لم يسعف الأحزاب الجديدة الفترة الزمنية القصيرة بالتأسيس أن يكون لها خطاب اجتماعي واقتصادي، ليُمَيَّز ويُقارن عن طريقه.
فغير الأحاديث في السياسية وقضايا الانتخابات، لم يلحظ بصورة كبيرة توجه تلك التيارات إلى موقف مجتمعي فٌصّل فيه اجتماعياً بين القوى القديمة والجديدة. 
والفرق هنا هو أنَّ هناك قاعدة لخطاب الأحزاب التقليدية في العراق، متمثلة بالخطاب التاريخي وامتداد سياسي من قبل 2003، وبذلك هم يمتلكون سياقات تحتوي على مسلمات في الخطاب، لا تحتاج إلى توضيح للجمهور، وتناص يمكن له الاستعادة إلى أي قصة أو حديث أو قول سابق، في حين لا تملك الأحزاب الجديدة ذلك السياق؛ لعدم وجود ذخيرة خطابية مع الجمهور، فالجمهور يتواصل معهم بصورة دلالية لا سياقية، ممَّا يضعهم في حرج التوضيح المتكرر، وفكِّ الالتباس وهذا ما يبعدهم أحياناً عن توسيع الخطاب إلى رؤى اقتصادية واجتماعية عامة.
إنَّ الانتخابات المعلن إجراؤها 2021 ستكون معبرةً عن الخارطة الجديدة للشارع العراقي بصورة كبيرة، الذي تميز منذ 2003 بأنَّه (ستاتيك) لا يفرز وجوها جديدة، ولأنَّ الظروف التي رافقت المرحلة الماضية قسمت ذلك المشهد بصورة واضحة، فأصبحت هناك أطراف سياسيةً تنافس الوجود التقليدي للأحزاب، بعد أن انقسمت نفسها إلى محافظين ومتغيرين، إذ عزَّز التوجه المعارض إلى ذلك الانقسام وأصبح أكثر وضوحاً، بين تيار محافظ يدافع عن وجوده ولا يتخلَّى عن المرحلة السابقة، وتيار متغير يتخلَّى عن المرحلة السابقة، مستثمراً الظروف للتقارب مع الأحزاب الجديدة، منتجاً خطاباً وسطياً بين التقليد والمحاكاة، وبروز تيار ثالث يمثل القطيعة مع التيار التقليدي. 
وبذلك فان المرحلة المقبلة ستكون قائمة على ثلاثة اتجاهات، بعد أن كانت مقتصرة على اتجاه واحد يتنافس المنتمون اليه في ما بينهم، تتكون تلك الاتجاهات الثلاثة بين الاتجاه التقليدي، الذي ما زال يمثل قوة انتخابية من ناحية جمهوره ومن ناحية الخبرة التي يتمتع بها منذ 2003، والاتجاه الذي خرج من رحم الاتجاه الأول، مغيرا من منهجه وخطابه متناغما مع المرحلة، التي يرى فيها ضرورة تغير المنهج والتحول نحو القرب من الاتجاه الثالث، الذي يريد التغيير الكبير عن المنهج الأول. لتكون المرحلة معبرة عن الحركة المناسبة للعملية الديمقراطية بصورة أكبر، كون عملية الانتخاب لا تتوقع نتائجها بصورة كاملة، على الرغم من وجود بعض الاعتراضات الساعية الى تقويم العملية، الا أنها بهذا التحول تسير نحو الحركة المنتجة، والتعدد المانع للاستبداد الديمقراطي كما هو موجود في الكثير من الدول الديموقراطية القائمة على السيطرة الاثنية او الدينية.