رصانة السرد في «دخان المرافئ» لإسماعيل سكران

منصة 2021/09/21
...

 حنون مجيد
يواصل القاص والروائي اسماعيل سكران نشاطه الإبداعي بدأب حثيث، تتمظهر فيه التطورات الجارية على قدراته السردية، في القصة والرواية معاً. ولعل روايته (دخان المرافئ) التي صدرت هذا العام 2021 خير دليلٍ على تواصل هذه المسيرة، لا سيما أنها جاءت بعد روايته (مصحة الوادي) الصادرة عام 2020 وروايته (معزوفة الحب والخراب) الصادرة عام 2018، وروايته (فردوس أمي القديم) وكتابه القصصي (كرات الثلج) الصادر في العام 2017 وهكذا في مسيرة جادة؛ فاعلة ومنفعلة تثير الدهش والإعجاب معاً.
تتمحور رواية (دخان المرافئ) على مقطع من مقاطع الحرب العالميَّة الأولى، وهي هنا بين الإمبراطوريتين البريطانية والعثمانية أثناء صراعهما على مدينة الكوت، وحصارها المروع الذي فرضه الجيش العثماني على الجيش البريطاني، وحصد عشرات الآلاف من أبناء المدينة المحاصرة، وجنود القوتين المتقاتلتين وضباطهما كذلك.
اللافت أنَّ الروائي دخل روايته بهدوء رصين وثقة عالية، تتضح من خلال البناء السردي للرواية التي تبدأ فصولها الأولى بعيداً عن أجواء الحرب، بل إنّ ذلك لم يحصل إلاّ في الفصل الثاني والعشرين، وفي الصفحة الثالثة والستين من رواية، عددُ صفحاتها مئة واثنتان وأربعون، عدا ما تطرق إليه من أحداث شبه طارئة تواجهها قوات الجندرمة التركيَّة، ومنها تلك التي شنّت لغرض التفتيش والبحث عن السلاح لدى سكان رجال القبائل القادمين من الريف والذين يحملون السلاح في العادة، بعد أنْ تعرضت السفينة (بغداد) لإطلاق النار وقتل ستة من أفراد الجيش العثماني، «ص17 وكان من جرائها» مداهمة البيوت والمحال وما رافقها من سرقات من قبل رجال الشرطة العثمانية. ص 18، أو بعض ما حصل كذلك وأدى إلى خلخلة في المواجهة بين القوات العثمانيَّة والأهالي، بعد ما «تعرضت السفينتان (حمدية) و(مرمريس) إلى هجوم بالبنادق من قبل القبائل التي تقطن على ضفتي دجلة، انتقاماً من السلطات العثمانية التي بالغت في إلزام المقاطعات الزراعية على دفع بدلاتها المالية....» ص30 وجدها رؤساء القبائل مستحقات جائرة.
رويَّة عالية
لقد بنى الروائي هيكل روايته بروية عالية مصحوبة بالثقة في القدرة الإبداعيَّة، ليقدم عملاً روائياً متيناً وشفيفاً في الوقت نفسه، تآزرت على ذلك؛ الفصولُ القصيرة واللغة الرقيقة التي خلت من الغلط النحوي، الذي غالباً ما عكر نفس القارئ اللاهفة إلى مستوى ما من مستويات اللذة في المقروء.
خلال الصفحات الستين الأولى من الرواية، نتعرف بادئ ذي بدء على (الدوبة بصرة) وهي تقترب كثيراً من جرف الميناء، تحمل على ظهرها البضائع المشحونة من ميناء البصرة إلى المدن الصغيرة المنتشرة على ضفاف دجلة» ص5، ما يعني أنَّ مدينة الكوت ومدنها الصغيرة المنتشرة حولها، تتزود بما يردها من البصرة أولاً بأول، عبر سفنٍ، (الدوبة بصرة) إحداهنّ.
يربو عدد سكان المدينة على الخمسة آلاف نسمة يقطنون في منازل قريبة من النهر، أو مبعثرة بين بساتين النخل والأشجار. معظمهم يعتمدون في معيشتهم على وصول البواخر التجارية إلى مرفأ مدينتهم ليزودوا بالحبوب والأقمشة والسكر والشاي، وليجهزوا البواخر ببضائعهم المنتجة محلياً من الصوف والسوس والدهون.....» ص8 و9
 
أسماء كثيرة ومتداخلة
زخرت الرواية بأسماء كثيرة ومتداخلة، تتوزع بحسب أدوارها وفاعلياتها في المتن الروائي، مثل قادر باشا صاحب إحدى الخانات الكبيرة في المدينة، وصاحب الجولات الصاخبة في المدن مثل بغداد وإستانبول، وعبد الفتاح عامله الذي كان خادماً لأسرته في الكرادة ببغداد، قبل أنْ ينتقل به إلى الكوت ليرعى مصالحه هناك، بفعل ما يتمتع به من كفاءات جسديَّة ومعرفيَّة تتعلق بمعرفته القراءة والكتابة، التي يتطلبها عملٌ كالحسابات في خان تدخله وتخرج منه، مواد وبضائع مختلفة كل أسبوع أو كل شهر. كذلك صبحي السراج الذي سيتزوج لاحقاً الفتاة الرقيقة نازك، ابنة مكيَّة التي فرَّتْ من بيت الزوجيَّة في البصرة إلى الكوت لخلافات متصلة مع الزوج، وزواجها من عبد الفتاح من بعد، وعلي الهندي المهرب الخطير، وصاحب المغامرات التي تقتضيه أحياناً تهريب الأفراد سباحة إلى الجانب الآخر من النهر ليلاً، وتحت رشاش من الرصاص الذي ترش به بنادق الأتراك سطح الماء هذا الوقت، وأسماء كثيرة ورئيسة أخرى سيكون من أبرزها (طاوزند) القائد الانكليزي الذي سوف يُحاصَر وجيشُه، في ما صار يعرف تأريخياً بـ»حصار الكوت»، وخليل باشا القائد التركي الذي سمي شارع الرشيد باسمه، قبل أنْ يصار إلى تسميته بشارع الرشيد، والقائد التركي الآخر الذي اقترن حصار الكوت باسمه؛ نور الدين باشا، وأسماء كثيرة غيرها، كانت ذات تأثير مباشر ولكن بدرجات متفاوتة في علاقتها بالرواية وأحداثها والتأثير فيها، وفي توزيع عادل ماهر اقتيدت الرواية على متونه بنجاح.
تنقل الرواية خبر الشروع بالحرب بين الإنكليز والعثمانيين التي سيجد القارئ لاحقاً كرّها وفرّها، بما يأتي على لسان الراوي؛
«في ذلك الشتاء، في الفصل الذي تزوج فيه عبد الفتاح، حملت السفينة (الموصل) – ومن خلال قبطانها – إلى المدينة خبراً زلزل ثوابتها: أنَّ القوات الإنكليزية نزلت على أرض الفاو، وها هي في طريقها إلى البصرة» ص63
 
أحداث جسام
وبدءاً من هذا الفصل الثاني والعشرين، تنفتح الرواية على أحداث جسام تتناقض كل التناقض مع الحياة والأحداث قبلها، حيث الهدوء والطمأنينة والسلام، وحيث كل شيء يسير متهاوداً لا حرب ولا صراع فيه، مقابل ما سوف يجري من صراع يهلك فيه مئات الألوف من البشر، وتجري على الأرض بحار من الدم.
إنَّ ما صورته الرواية ليس هذا الصراع الوحشي بين قوتين كلتيهما غاشمة وعاتية، بل كذلك ما وقع على الشعب الآمن من حيف وجور واستعباد، جراء أرضه الطاهرة التي تجري عليها مطاحن الحرب. وهكذا تسحق حروب الأقوياء أبناء شعوبهم وأبناء الشعوب المقاربة لساحة الحرب، من دون أنْ تكون لهم ناقة في هذه الحرب أو جمل، وهي محنة إنسانية كبيرة كان ينبغي أنْ يتوقف عليها القضاء العالمي والمنظمات الإنسانيَّة طويلاً، هذا إذا كان السوْق إلى الحرب قسراً وليس طوعاً.
- ها، تبدو حزيناً، ما الأمر؟
- الدنيا مقلوبة، يا صبري. فالحرب قادمة إلينا.
- أعلم، جاءني تبليغ من السراي بالالتحاق في صفوف المكلفين بالخدمة العسكريَّة.
- لا تنفّذ، اختبئ في البساتين.
- لا يمكن، سأظل مطارداً طيلة حياتي. سألتحق وأمري إلى الله.
- إنهم يندحرون أمام الإنكليز في كل مكان، ولكن جريدتهم تدعي الانتصار. هاك أنظر. ص70
يجري هذا الحوار المؤسي بين عبد الفتاح وصبري السراج، إذ يلتقيه في دكانه، بعد أنْ جرى حوار مماثل بين عبد الفتاح نفسه وزوجته مكية، بعد أنْ عاد من عمله إلى بيته؛
• يعني مدافع وقنابل تسقط فوق رؤوسنا، بسبب الإنكليز والترك.
• اللعنة عليهم، ماذا يريدون منا؟
• إنها حرب بين الإنكليز والعثمانيين بدأت بالبصرة، وربما ستمتدّ إلينا.
• وما لنا نحن؟
• لا شيء، نارهم تأكل حطبهم. لكن تلك النار سوف تصيبنا أيضاً. ص 65
سيكون هذا الحوار الذي جرى بين عبد الفتاح وزوجته، وبينه وصبري السراج، الكشف المبكر والأوثق لما سوف ينصبّ على حياة الناس الآمنة، ومدينتهم المقهورة من عذابات وويلات جراء حرب قادمة.. فقد،
«تجمع المئات من الشباب، جاؤوا على تبليغ وزعه عليهم الجيش التركي الذي زاد من إحكام قبضته على المدينة. (...............) ترجل القائد ودلف من باب السراي، بينما بقي الجميع، الشبان الذين سيقوا من الأرياف ومن المدينة، مربدي السحن، قلقين، خائفين. وبعد لحظات أطل عليهم ضابط يعتمر قبعة حمراء طويلة، ويمسك حزمة أوراق، يتبعه نفر من ضباط الصف. صاح بصوت أفزع الجميع:
• من أنادي باسمه يقف على هذا الجانب» ص71 - 72
هكذا تكون الأسماء التالية؛ لفتة ولي، بريسم عليوي، أحمد الراضي، محمد علي ادريس، داود منخي، علي الهندي، صبري السراج، وغيرها من أسماء بالعشرات بل بالمئات، دخلت مجد الدم المسفوح بأيادي الترك والإنكليز، سواء بسواء. 
كانت معاناة سكان المدينة مزدوجة بين الجيشين العثماني والإنكليزي، وتناوبهما عليهم، الأمر الذي أوقع عليهم وأبنائهم جوراً عاتياً تجاوز البحث عن الطعام في الخانات والمخازن والدكاكين والبيوت، إلى خشب الأبواب والشبابيك؛
• إنهم يفتشون البيوت بحثاً عن الطعام كما اقتلعوا كل أبواب وشبابيك البيوت.
• لقد غيروا كل معالم المدينة، لقد حولوا دكاكين عبد الفتاح إلى ردهات للجنود المرضى والمصابين كما حولوا دكاكين أخرى إلى ورش نجارة لصنع التوابيت. (.....) تضاعفت شدة البرد، وازدادت حاجة الجيش الإنكليزي المحاصر، إلى الوقود للطبخ والتدفئة. ص 108، 109، وكان على المدينة أنْ تمتثل صاغرة لأوامر الجنود من هؤلاء أم من أولئك فجميعهم غرباء قساة.
 
السرد الاشتباكي
تتجاوز الرواية في بعض مفاصلها، السرد الخطي أو الخيطي إلى السرد الإشتباكي، تلويناً للواقع النفسي لمتلقيها على وفق تعاقب مرن وسلس لسيرورة أحداثها.
وما يمكن التأكيد عليه، أنَّ هذا الإيقاع بدأ يتوتر ويصخب، لا سيما حينما عزم القائد التركي نور الدين باشا على «دحر جيش طاوزند؛ وذلك بمواصلة حصاره داخل الكوت حتى نفاد ذخيرته ومؤونته وكثرة الإصابات في جيشه». ص 104
ولم يكن ذلك سهلاً على الأرض، سهولته على الورق، إذ احتدم القصف المدفعي المتبادل وجرت الدماء بين الطرفين وكثر عدد القتلى فضلاً عن صعوبة حركة المتقاتلين والمدافع التي تجرها الخيول، نظراً لعوائق الطريق وتحديداً عند المطر.
لقد دام القتال في مثل هذه الظروف المتشابكة والصعبة ما يقرب من خمسة أشهر، أكل فيها البشر الأعشاب والحيوانات، في كرّ وفرّ كان الإنكليز فيه يخسرون ثم بعدئذ ينتصرون، في صورٍ من التقاتل اختلط فيها الرصاص بالسلاح الأبيض؛ كانت بشعة ممضّة، وكريهة وغير إنسانية.
من جانب آخر كشفت بساطة الناس وسذاجتهم وبعدهم عن دوائر الأطماع الكبيرة والمرامي القريبة والبعيدة لأصحاب الحرب، حينما كانوا يتوقعون قرب انتهائها بعد أنْ مضت عليها بضعة أيام!
إذ ما أن استسلم القائد الإنكليزي طاوزند وجنوده، وعمّ الفرح الجيش العثماني وقائده نور الدين باشا، وساد المدينة شيء من الانفراج والهدوء، حتى عاد الجيش الإنكليزي فنظم صفوفه وكرت الحرب، لينتصر فيها الإنكليز نهائياً هذه المرة، لتلمّ المدينة جراحها النازفة على خسائر فادحة وظالمة.
 
المرونة والمران في الفن
هكذا تمضي هذه الرواية التي ما يحسب لمؤلفها فيها أنه، وبرغم دروب روايته الشائكة، كان يعرف طريقة ويستدل على تشعباته بدراية فائقة، منحتها هذه السيرورة السلسة المتزنة، التي تدفعك للتفكير بأنَّ تقرير الأشياء في العمل الروائي ليس سهلاً، ليكون الفن فناً. كذلك ما يحسب له خلّو روايته من الغلط النحوي، وضعف التركيب اللغوي، فضلاً عن نباهته إزاء علامات الترقيم التي من الضروري ألّا يجهل الكاتب أهميتها، وقدرتها على إيصال الدلالة اللغوية بمقتضي غايتها.
إنّ السهولة في تقديم العمل مع المرونة والمران في الفن، لا يدل على ضعف العمل أو تخلفه عما طرأ على الفنون السردية عموماً من تقنيات، بل يشير إلى الثقة بالنفس، وبقناعةِ أن السهل قد يكون هو المعقد، وهو البوتقة التي يرقد فيها الفن الأصيل.