متطلبات حماية الأداء المهني للصحفيين العراقيين قبل الانتخابات

منصة 2021/09/21
...

د. صفد الشمري *
تطالب المجتمعات صحفييها بتغطيات على أعلى قدرٍ من شروط الاحترافية والالتزام بالمعايير المهنية، بصرف النظر عن حجم أو نوع الضغوط التي يمكن أنْ يتعرضوا لها بالميدان، لا سيما في البيئات غير المستقرة ومع الاستحقاقات الواسعة التي قد تتخللها أية أشكال من الصراعات. وبالاتفاق مع أن التزام المعايير الأخلاقية بات الحجر الأساس في قياس مهنية الصحفيين، إلا أن هذا لا ينفي ضرورة الوقوف على الضغوط التي قد تحول دون قيامهم بأداء مهماتهم على النهج المثالي، ذلك أن المهنيَّة نفسها تتطلب من المجتمعات، ممثلة بمؤسساتهم المتعددة، توفير ضمانات حماية هذا الأداء، ومنها ما يتعلق بتغطيات الانتخابات.
 
الفرضية المحتملة
قد تواجه نزاهة العمل الصحفي في الانتخابات ومهنيته، على وفق الحالة العراقية تحديات وضغوطات ربما تحول دون قيامه بالدور الأمثل، أو أنها قد تأخذ من إمكاناته الفنية والمادية والبشرية وتشغله عن أداء وظائفه الطبيعية، شأنه شأن أي أداء صحفي في العالم، الأمر الذي يوجب التأكيد على طبيعة الضمانات التي يجري تقديمها للصحفيين لحمايتهم، كونهم إحدى منظومات شفافية العملية الانتخابية الرئيسة، قبل وأثناء وحتى بعد الانتخابات؟
على مستوى العالم.. تكون إشكاليات العلاقة بين السلطة السياسيَّة وبين وسائل الإعلام موجودة في مجتمعات كلها، سواء أكان هذا الأمر مع الانتخابات أو مع أية ممارسة أخرى، وتطرح على أنها إشكالية تتمثل في توجه السلطات السياسية للتحكم بوسائل الإعلام، وترجع هذه النزعة إلى الطبيعة البنيويَّة للمؤسسة السلطويَّة، التي تقوم على أساس ممارسة السلطة ذاتها، في حين يفترض أنْ تقوم المؤسسة الإعلامية بالإسهام في تشكيل وعي الأفراد، وأنْ يكون لها الدور الفاعل في تشكيل الرأي العام، وبالتالي تتجه السلطات لانتهاج ما من شأنه ضمان الاستمرار بالتأثير في وسائل الإعلام منظومة إنتاج وضبط الأفكار والمعلومات بما يتماشى مع منهجها، وهي أبرز الضغوط التي قد تواجه الأداء الصحفي في العالم.
وفضلاً عن ذلك، يكون الإعلام العراقي تحت ضغط يمكن عدّه من نتائج استمراريَّة ملامح الصراع في المجالات السياسيَّة والاجتماعيَّة، في وقتٍ تتفق فيه آراء الباحثين بوجه عام: “على أنَّ هناك مرجعيتين تتحكمان في الشخصية العراقية، تتمثل الأولى بالتراث الديني الزاخر بالصراعات السياسيَّة، والأخرى مرجعيَّة قبليَّة، إذ بقيت الشخصيَّة العراقيَّضضة تستمد مرجعيتها من القبيلة، ولا يزال هذا المركب يشكل إطاراً مرجعياً للسلوك الفردي والجماعي للمجتمع العراقي”، ومن وجهة نظر أولئك الباحثين فقد شكّل هذان الجانبان منعطفاً مهماً حال دون قيام الإعلام بوظائفه في المجتمع على الشكل المثالي.
وتحت ضغط الصراع السياسي والاجتماعي أو المجموعات الهادفة إلى بسط النفوذ الاجتماعي أو الفئوي أو العشائري على حساب سلطة القانون، ما أدى إلى عدم تمكنه في أوقات وظروف معينة من تطبيق المعايير المهنيَّة بالشكل المطلوب، ومن هنا فإنَّ تقييم أداء الإعلام والصحفيين في العراق يجب أنْ يراعي تلك العوامل مجتمعة، حتى يكون القياس منصفاً.
وترى الدكتورة نزهت الدليمي في معرض تفسيرها للخطاب الدعائي أنَّ لوسائل الإعلام دوراً بالغ الأهمية في رسم وتحديد المعالم السياسيَّة لأي نظام سياسي أو اقتصادي ولأية دولة، ومن ثم بناء علاقات دولية متوازنة مع مختلف القوى السياسية في العالم، وأنَّ نجاح هذه العلاقات يكون على أساس الارتباط الوثيق في تحقيق المصالح الوطنية والقومية لكل دولة، وأنَّ غياب هذا يؤدي إلى الإخلال بالاستقلال والتوازن، وينبغي التركيز على أنَّ للإعلام تأثيراً مباشراً في توجيه سلوكيات الجمهور المتلقي في ضوء ما يبث أو ينشر من رسائل تساعده في مراقبة البيئة الخارجيَّة ونقل الأخبار عن الأحداث الجارية، وتفسير معانيها، فضلاً عن إمكانية التلاعب أو التأثير المدروس في العمليَّة السياسيَّة.
وتضيف: “في إطار دور وسائل الإعلام بالتنشئة السياسيَّة، فقد تسهم في تشكيل الثقافة السياسية للأفراد والجماعات داخل الدولة، بوساطة المعلومات الكافية التي تقدمها، وطرح نماذج من السلوك المراد تحقيقه، وقد تخلق وسائل الإعلام في مهمتها السياسية هذا الأحساس باللامبالاة، أو الشعور بالتطابق مع الآخرين، من حيث زيادة التركيز على قيمة معينة من القيم السياسية، وعن طريق تدعيم العقائد المكتسبة، وهذا ما يمكن أنْ يحدث أثراً في مسارات توعية الناخبين.
 
ضغط الانتخابات
أعلن العراق في الخامس عشر من أيلول 2021 توقيع مدونة السلوك الانتخابي من قبل القيادات والكتل العراقيَّة، شددت في إطارها على ضرورة نزاهة الانتخابات التشريعية المقبلة، وأشارت في فقرتها السادسة الى وجوب احترام حرية الصحافة والإعلام، وعدم استخدامها بصورة مباشرة أو غير مباشرة في التسقيط، بينما تضمنت مادتها السابعة آليات تنظيم الوصول بالرسائل الانتخابية عبر وسائل الإعلام العراقيَّة.
وتضع المفوضيَّة العليا المستقلة للانتخابات ما يطلق بقواعد السلوك الانتخابي، في محاولة لضبط مسار الممارسات الانتخابيَّة، تحدد العقوبات في حال جرى تسجيل خرق تلك القواعد، التي تتضمن: تعليمات يجب على الكيان السياسي المشارك في الانتخابات تنفيذها، بالالتزام بالدستور والقوانين الصادرة من مجلس النواب والحظر المفروض على الإرهاب وممارساته واستخدامه ومنع الكلام بلغة الكراهية والتخويف والتحريض على العنف، ومنعه من ترويج الأكاذيب وسرقة المواد الانتخابيَّة والتهديد والتزوير واستخدام موارد العراق العامة للأغراض السياسيَّة، وتوجب هذه القواعد تعهد الكيانات السياسيَّة بالالتزام بها شرطاً لتصديقها واعتمادها، ويشمل هذا الالتزام رؤساء الكيانات وكل مرشحيها وأعضاءها ومؤازريها، إذ ينبغي على كل كيان سياسي مشارك في الانتخابات أنْ يبذل قصارى جهده للتأكد من فهم تلك القواعد.
بينما تشدد مواد قانون حماية الصحفيين في العراق لسنة 2011 على ضرورة احترام حريات الصحافة والتعبير وضمان حقوق الصحفيين وتوكيد دورهم في ترسيخ الديمقراطية، وتنوه المادة الخامسة منه بأنَّ للصحفي حق الامتناع عن كتابة أو إعداد مواد صحفية تتنافى مع معتقداته وآرائه وضميره الصحفي، وتنص المادة التاسعة من القانون على معاقبة كل من يعتدي على صحفي أثناء تأديته مهنته أو بسببها، بذات العقوبة التي أقرت لمن يعتدي على موظف حكومي أثناء تأديته للوظيفة أو بسببها، الأمر الذي ينوّه بمتطلبات الإعداد لأجواء حماية الصحفيين من أي ضغط محتمل، بالإفادة من تجارب صحافيينا مع الانتخابات السابقة.
 
تجربة البرهان
تستدعي متطلبات حماية الأداء المهني للصحفيين قبل الانتخابات، بحث التحديات التي واجهت تجاربهم السابقة في هذا المضمار، وقد أجرينا دراسة علمية في الضغوط التي اعترضت الصحفيين العراقيين قبل الانتخابات التشريعية السابقة لعام 2018، وأفادت بعض نتائج استطلاع العينة الميداني بإجابة ما نسبتهم 36 % منهم بـ (أحياناً) حول تأثر وسيلتهم الإعلامية بتغيرات البيئة السياسيَّة المستمرة في العراق بشكل عام، وضعهم بالمرتبة الأولى، وأتتْ (غالباً) ثانية بنسبة 28 %، و(دائماً) ثالثة بنسبة 24 %، و(أبداً) رابعة بنسبة 8 %، و(نادراً) بنسبة 4 % أخيرة، وفيما إذا كانت تغيرات البيئة السياسيَّة تمثل تحدياً لموضوعيَّة الأداء الإعلامي للمبحوثين، كانت (أحياناً) بنسبة 32 % أولى، و(غالباً) بنسبة 28 % ثانية، و(دائماً) بنسبة 18 % ثالثة، و(أبداً) بنسبة 14 %، و(نادراً) بنسبة 8 % أخيرة.
وإنْ كانت الإدارة الإعلاميَّة تعمل على توجيه المكلفين بمهام إعلاميَّة تؤدي إلى تحديد أدائهم على وفق مسار معين قد يتعارض مع موضوعيتهم المهنية، كانت إجابات المبحوثين بـ (أبداً) أولى بنسبة 32 %، وجاءت (نادراً) ثانية بنسبة 28 %، و(أحياناً) ثالثة بنسبة 14 %، و(دائماً) أخيرة بنسبة 8 %، وفيما إذا كان غياب مفهوم دولة المؤسسات يمثل ضغطاً إضافياً على الأداء الإعلامي في وسيلتهم الإعلاميَّة، كانت مرتبة (دائماً) الأولى بنسبة 32 %، و(أحياناً) ثانية بنسبة 24 %، و(غالباً) ثالثة بنسبة 16 %، و(نادراً) و(أبداً) أخيرتين بنسبة 14 % لكل منهما.
وبشأن ما إذا كان تصاعد ملامح الصراع على المستوى الاجتماعي العام قبل كل انتخابات يشكل تحدياً لأداء المبحوثين الإعلامي، أتت (غالباً) أولى بنسبة
36 %، و(نادراً) ثانية بنسبة 25 %، و(دائماً) ثالثة بنسبة 16 %، و(أبداً) رابعة بنسبة
9 %، و(أحياناً) أخيرة بنسبة 14 %، الأمر الذي يؤشر ضغط الصراع بشكل عام على الأداء الإعلامي في الانتخابات، وحول إذا ما كان يجري الاجتماع بمنتسبي الوسيلة الاعلامية للاستماع إلى التحديات التي تواجه أداءهم الإعلامي في الميدان قبل الانتخابات، كانت (أحياناً) في المرتبة الأولى، بنسبة 34 %، و(دائماً) ثانية بنسبة 25 %، و(غالباً) و(نادراً) ثالثتين بنسبة 18 % لكل منهما، و(أبداً) أخيرة بنسبة 5 %، وفيما إذا كان المبحوثون يتعرضون إلى مطالب من داخل الوسيلة التي يعملون فيها بتوجيه الأداء الإعلامي نحو مسارات قد لا تتفق مع موضوعيتهم المهنية قبل الانتخابات، كانت (أبداً) في المرتبة الأولى بنسبة 26 %، و(نادراً) ثانية بنسبة 24 %، و(غالباً) ثالثة بنسبة 20 %، و(دائماً) رابعة بنسبة 14 %، و(أحياناً) أخيرة بنسبة 16 %.
وإنْ كان المبحوثون يتعرضون إلى مطالب معينة من خارج وسيلتهم الاعلامية بتوجيه الأداء الإعلامي نحو مسارات قد لا تتفق مع موضوعيتهم المهنية قبل الانتخابات، جاءت (نادراً) أولى بنسبة 41 %، و(احياناً) ثانية بنسبة 23 %، و(أبداً) ثالثة بنسبة 16 %، و(دائماً) رابعة بنسبة 11 %، و(غالباً) اخيرة بنسبة 9 %، وعن مدى تأثير الخيارات الشخصية الانتخابية في مسار الأداء الإعلامي للمبحوثين في القناة، حلّت (أبداً) أولى بنسبة 65 %، و(غالباً) ثانية بنسبة 14 %، و(احياناً) ثالثة بنسبة  9%، و(دائماً) رابعة بنسبة 7 %، و(نادراً) اخيرة بنسبة 5 %، وبذا يمكن عد الخيارات الانتخابية الشخصية عنصراً غير فاعل في مجال الضغط على الأداء الإعلامي في الانتخابات.
وعن القيام بتعريف المبحوثين بسياقات العمل الإعلامي على وفق القوانين والتعليمات الانتخابية عبر دورات وورش عمل قبل الانتخابات، تفيد النتائح حلول (احياناً) في المرتبة الأولى بنسبة 32 %، و(غالباً) ثانية بنسبة 26 %، و(أبداً) ثالثة بنسبة 24 %، و(دائماً) و(نادراً) اخيرتين بنسبة 9 %، وهو ما يؤشر عدم قيام الوسائل الاعلامية العراقية بدورها في مجال تعريف منتسبيها بتلك السياقات، وفيما إذا كانت الإغراءات المالية التي تقدم إلى الإعلاميين تمثل عنصراً مهماً في توجيه مسار الأداء الإعلامي، حلّت (أبداً) اولى بنسبة 43 %، و(غالباً) ثانية بنسبة 26 %، و(دائماً) ثالثة بنسبة 18 %، و(أحياناً) رابعة بنسبة 9 %، و(نادراً) اخيرة بنسبة 4 %، وإذا ما كان إضافة مخصصات مالية مقطوعة للإعلاميين بوصفها (مخصصات خطورة) في أوقات يتوقع فيها تزايد حدة الصراع ومنها الانتخابات، تشكل إضافة مهمة في موضوعية الأداء الإعلامي في القناة، وضعت إجابات المبحوثين (أحياناً) في المرتبة الأولى بنسبة، 27 % و(نادراً) ثانية بنسبة 25 %، و(دائماً) ثالثة بنسبة 20 %، و(غالباً) رابعة بنسبة 16 %، و(ابداً) اخيرة بنسبة 11 %، النتيجة التي تعكس الحاجة إلى مثل تلك المخصصات المالية للمكلفين بمهام إعلامية وقت الانتخابات.
 
الحماية المطلوبة
تتطلب الشفافية المرجوة من الصحفيين في الانتخابات التشريعية 2021 مراجعة وتوفير عناصر حماية ادائهم المهني، لا مطالبتهم به فقط، بالقياس إلى تجاربهم السابقة ومقاربتها بطبيعة الواقع الحالي في الميدان، الأمر الذي يستوجب القيام بحملات تواصل مباشر معهم ومطالعة متطلبات عقد الشراكات المهنية مع الصحفيين، شأنهم في ذلك شأن الكيانات والمرشحين والمراقبين المحليين والدوليين، في ورش وحوارات ولقاءات مستمرة للاستماع إلى أي ضغط قد يمارس بالضد منهم من قبل أية جهة كانت، ما دامت الأهداف المرجوة مشتركة: نزاهة الانتخابات وشفافيتها.
                                                    *خبير التواصل الرقمي