الانتخابات ورياح المقاطعة والمشاركة
ريبورتاج
2021/09/25
+A
-A
د.أحمد قاسم مفتن
من بين التعابير السجالية الأكثر تملصاً في أواخر القرن العشرين وبواكير القرن الحادي والعشرين، تعبير (التصحيح السياسي)، الذي ينطوي على معانٍ ودلالات متعددة، من بينها أنه ينطوي على (إهانة، أو تهمة، أو نكتة) تهدف إلى التأكيد بأن القائمين على تسيير سياسات البلد وقيادة سلطته (مخطئون، فاشلون، قاصرون)، ما يتطلب سلسلة من الاجراءات، التي من شأنها أن تفضي إلى (تصحيح سياسي)، من بينها تغييرهم أو الإطاحة بهم أو على الأقل إحداث تغيير في التشريعات والقوانين والأطر التنظيمية. وقد يتضمن التصحيح السياسي أيضاً معنى عاماً يشتمل على عنوان جهدٍ من أجل تغيير المجتمع وواقعه، لا سيما طرقه في تناول علاقات السلطة بمختلف المستويات، وعن طريق إصلاح ثقافي غالباً ما يكون على نطاق صغير ولكنه ما يلبث أن يمتد متوسعاً.
إذاً فالتصحيح سياسياً هو حكم يتنكر بقناع وصف، وبصرف الانتباه عن جوهر الاصلاحات المقصودة وقيمتها ومداها، إذ يعبر عن موقفٍ إقصائيٍ من أولئك القابعين في السلطة، وقد يستخدم في الوقت ذاته ضد الذين يدافعون عن التغيير. وقد يدعي هؤلاء بدورهم هذه العبارة كنوع من الوصف الذاتي الساخر.
كما يعد التصحيح السياسي نوعا من الإصلاح والتطوير للنظام السياسي والعملية السياسية، وهو وسيلة للتغيير الاجتماعي السلمي والتدريجي. بخلاف الثورة التي من شأنها أن تجري إصلاحاً سياسياً قاطعاً، ومباشراً ودفعة واحدة، ولكنها في الوقت ذاته خطرة، ناسفة، ومكلفة، فإنها قد تحصد حياة بعض من أهلها، سواء خلال قيامها وتشكلها، أو بعد نجاحها حين تنتقل عبر دورة لا يمكن السيطرة عليها من التقدمات، التي من شأنها أن تدمر آمال مؤيديها الأصليين، وفي أغلب الأحيان حياتهم أيضاً، لكنها في احيانٍ أخرى قد تصبح الثورة المنجى الرئيس للتخلص من حالة التكلس والانسداد في النظام السياسي، غير القابل للتصحيح.
قبل الثورة الفرنسية، لم يكن مصطلحا (الإصلاح) و(الثورة) يتعارضان بمثل هذا الوضوح، ومع أنهما يحملان معاني مختلفة، فكثيراً ما كانت تتداخل استعمالاتهما. يعني «الاصلاح» حرفياً أن «يعيد تشكيل»، أي أن يشكل من جديد، ولهذا فهو يمكن أن يفهم بمعنيين مختلفين: تعديل حالة مغلوطة للأشياء، أو تحويرها نحو الأحسن، والعودة بشيء ما نحو وضعه الأصلي. وهكذا يمكن النظر إليه إما كشيء جذري، أو كشيء محافظ، أو أحياناً في هاتين الحالتين معاً. بينما «الثورة» مشتقة من الكلمة اللاتينية (Revolutio)، بمعنى حركة شيء من مكان إلى آخر، وقد استخدم المصطلح في فجر الحقبة الحديثة للإشارة إلى كلٍّ من اندلاع اضطراب سياسي وللدلالة على حدوث تغيير في الحكم. بل هي غالباً ما تدعى الآن باسم آخر، هو الانقلاب العسكري أو المدني الذي ينسف غالباً جميع ما قبله ويأتي ببناء جديد.
جرعات ديمقراطية
في النظم الديموقراطية يتخذ الاصلاح والتصحيح السياسي أساليب عدة، من بينها التظاهر والاعتصام والتعبير عن الرأي عبر البرامج الحوارية والكتابة بمختلف وسائلها التقليدية والالكترونية، وعبر قنوات رسمية وغير رسمية، تنظيمية أو بشكلٍ فردي حر. كما يتبلور من خلال التنظيمات الناشئة او المشاركة بالسلطة أساساً من خلال اعتماد منهج المعارضة السياسية رقابةً وتشريعاً، فضلاً عن مساندة الجماهير وتحشيدها لتحقيق الاصلاح المنشود عبر الضغط على الحكومة والبرلمان للاستجابة إلى المطالب، التي من شأنها إحداث التصحيح. فالرهان في النظم الديمقراطية أو شبه الديمقراطية يكمن في قدرة هذا النوع من الأنظمة على تصويب مساره مع الزمن ونضج التجربة وممارسة النقد. جرعات من الديمقرطية حتى تصبح راسخة ورصينة، وتقوم على الفاعلية والكفاءة. وينبغي أن يقابل تلك الجرعات جرعات أخرى من التصحيح السياسي حتى يكتمل النضج وتنجح التجربة.
كما تمثل صناديق الاقتراع والمشاركة الواسعة والفاعلة طريقة ناجعة لتحقيق التغيير والتصحيح السياسي. لكنها في الوقت ذاته مشروطة بنزاهة الانتخابات وعدالة المشاركة والتنافس بين المرشحين. فمن دون تحقيق تلك الشروط تكون المشاركة عبثا ووسيلة لتراكم الاحباط وخيبات الأمل. تشتمل نزاهة الانتخابات على مجموعة من المعايير المستندة إلى المبادئ الديمقراطية ونظام قانوني يطبق على الجميع، ونظام مؤسسي يعمل بكفاءة على تحقيق انتخابات نزيهة وعادلة للمحافظة عليها. وعلى الرغم من ضرورة ملائمة تلك النظم للسياق الاجتماعي والسياسي لكل بلد، إلا أن الأهداف الأساسية الناتجة عن الحاجة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة تبقى من دون تغيير. فمن بين أهم المبادئ الارشادية الضرورية للحفاظ على نزاهة الانتخابات هي احترام مبادئ الديمقراطية الانتخابية، والسلوكيات الانتخابية، الدقة، ووسائل الوقاية التنظيمية (الرقابة والمتابعة)، والإشراف وإنفاذ الضوابط، وأخيراً الشفافية.
مطالب الجماهير
ففي العراق راهناً يعلو صوتان متعارضان إزاء المشاركة بالانتخابات. أحدهما يدعو إلى المقاطعة ويشير بذلك إلى مخرجات التجارب الانتخابية الأربع السابقة. ويهدف في الوقت ذاته من خلال المقاطعة إلى نزع الشرعية عن القوى السياسية المتنفذة. ويرى بأن تلك القوى تتمترس خلف ساتر من دخان، فحواه التصحيح عبر صناديق الاقتراح التي من شأنها أن تعيد انتاجهم مرة أخرى ومن دون تغيير يذكر. كما يشككون بعدالة ونزاهة الانتخابات ويؤكدون تزويرها وفسادها كسابقاتها. وفي الطرف الآخر يبرز صوت المعوّلين على التغيير والتصحيح السياسي من خلال مشاركة واسعة في الانتخابات من شأنها أن تفضي إلى انتخاب وجوه جديدة وكفوءة ونزيهة تعمل على تحقيق مطالب الجماهير وبناء وتطوير البلد. يراهن هؤلاء على ما تم تحقيقه من مقدمات تتعلق بالعملية الانتخابية، من بينها قانون الانتخابات الجديد ونظام الدوائر المتعددة، واستبدال المفوضية وآليات اختيار أعضائها، فضلاً عن تجديد سجل الناخبين وإصدار البطاقات البايومترية، ناهيك عن رهانهم الأبرز والمتمثل بوعي الجماهير وخبراتهم من التجارب السابقة.
وبعيداً عن موقف ورهانات المقاطعين والذين يدعون لمشاركة واسعة، تعم الاوساط الشعبية صورة ضبابية إزاء فاعلية المشاركة من عدمها، إذ جاءت نسبة المشاركة في انتخابات العام 2018 بما يقرب من
(45 %) من مجموع الناخبين، الذين يحق لهم التصويت في العراق. وخيمت خلال السنوات الأربع الماضية أحداث صاخبة وحوادث مريرة، زادت من معاناة الناس وآلامهم. وربما جعلت خيار (اللامبالاة) يسيطر على بعضهم، فهم ليسوا تماماً مع المشاركة ولا مع المقاطعة بوصفها موقفا، لا مبالاة وكفى. حالة من الاحباط واللا مسؤولية نوع من التحلل المعياري، الذي يجعل صاحبه لا يعرف أي طريق أصلح ليسلكه. وبحسب تلك الصورة وتنويع المواقف داخلها جاز لنا التساؤل هنا، هل حقاً ستكون صناديق الاقتراع شبه خالية؟ ما الرهانات الضامنة لمشاركة جماهيرية واسعة أو مقبولة بالحد الأدنى؟ كيف تتوزع خريطة العوامل المحفزة لمشاركة الجماهير؟ ما أبرز تصنيفات الجمهور المشارك بحسب العوامل المشجعة على المشاركة؟ وبشكلٍ أكثر وضوحاً.. من هم المشاركون غالباً في الانتخابات؟.
تصنيف المشاركين
ولمحاولة التفكير في إجابات تلك الأسئلة دعونا نصنف المشاركين في الانتخابات العراقية وفقاً لدوافع (المصلحة، الشعور بالمسؤولية، التخادم، الاصلاح والتغيير) لنتنبأ بمآلات المشاركة. وعليه فالمشاركون غالباً هم:
- المرشحون وأسرهم ومؤيدوهم.
- الحزبيون والسياسيون وأسرهم ومؤيدوهم.
- الذين يريدون المحافظة على الوضع الراهن وعدم خسران المكاسب المتحصلة من العملية السياسية بنظامها الحالي.
- الذين يريدون التغيير ويأملون تحقيقه عبر الانتخابات.
- المنتفعون بشكلٍ مباشر من الأحزاب والقوى السياسية المشاركة بالسلطة حالياً.
- الموظفون في القطاع العام ومنتسبو الجيش والأجهزة الأمنية.
- الموظفون العاملون في/ مع المفوضية المستقلة للانتخابات وفي مراكز الاقتراع (أُجراء ودائميون) ومراقبو الكيانات (من العراقيين).
- النازحون في مخيمات النزوح والمجتمعات المضيفة.
- العقائديون/ الجماعاتيون الذين يفكرون بحماية مصلحة الجماعة وديمومتها واستمرارها.
- التابعون والمتأثرون بمؤيدي الانتخابات من قبيل (المثقفين، الأكاديميين، صناع الرأي، القادة، رجال الدين، شيوخ العشائر).
شرائح متعددة ومتنوعة من المجتمع العراقي تحفزها وتشجعها مجموعة عوامل ذاتية وموضوعية، عامة وخاصة، سلبية وايجابية، للمشاركة في الانتخابات والتصويت لصالح مرشحين، إذ من بين (24) مليون عراقي بالغ تجاوز السن القانونية بعمر (18 سنة فأعلى)، هناك نحو (19) مليون عراقي لديهم بطاقة انتخابية، سواء كانت بايومترية أو قديمة، يحق لهم المشاركة في الانتخابات والتصويت. في العاشر من تشرين الأول سيتوجه من بينهم (عدد غير معلوم كبيراً كان أم صغيراً) يحملون في مخيلتهم آمالهم وطموحاتهم لتحقيق مجموعة غايات، يأملون أن تحققها نتائج الانتخابات النيابية المقبلة، وقد تكون متعارضة ومتقاطعة في الوقت ذاته، ولا نعلم أي منها ستكون له الغلبة والفوز، ربما يكون من بينها: عدم تكرار السياسيين المتواجدين حالياً في السلطة. أو صعودٍ كبير لشخصيات مستقلة وكفوءة وغير منتمية لجهة (تكنوقراط). أو أن تحافظ الأحزاب الكبيرة على تمثيلها مع تغيير أعضائها بوجوه جديدة. أو صعود كبير لشخصيات أو تحالف يمثل شباب تشرين. أو صعود كبير لشخصيات أو تحالف يمثل الحشد الشعبي. أو أن يبقى الحال على ما هو عليه. ننتظر ونرى.
*باحث واكاديمي
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة