انتخابات تشرين.. حاجات متغيّرة ودعايات متكررة

ريبورتاج 2021/09/29
...

د. عدنان صبيح ثامر  
تتحكم الثقافة كقواعد وسلوك في جميع المجتمعات ويتجاوز ذلك التحكم السلوك اليومي، لينتج أنموذجا خاصا لكل مجتمع في مجالاته الاقتصادية والسياسية، فلا يمكن القبول بأنموذج سياسي غير ملائم للثقافة المجتمعية، لا ينطبق الامر في الحديث عن الديمقراطية ودرجة انسجامها مع الشعوب العربية او شعوب العالم الثالث، بل ان تلك الدول تتعامل مع الديمقراطية بأسلوب يناسب قواعدها الثقافية، فالسياق الديمقراطي يواءم مع المجتمع الممارس له، وإن كان غير ممكن نجاح الديمقراطية مع سيطرة مفاهيم ثقافية سلطوية او قائمة على الغلبة، ولذلك كان عدد من المفكرين العرب قد أشاروا الى ضرورة تعزيز مفاهيم معينة في المجتمعات العربية لتكون طريقا لنجاح الديمقراطية، فقد طرح ادونيس فكرة المساواة، وطرح آخرون مفهوم التآلف، وقد استغنى الطرفان (أصحاب مفهوميّ المساواة والتآلف) عن مفهوم التسامح كونه يعني غلبة جهة على جهة يدعوها للتسامح.
ذلك جانب مهم لكن ما نريد الإشارة اليه هو ان هناك عنصرا مهما في الديمقراطية متمثلا بوجود طبقة وسطى تحمل الوعي الثقافي للمجتمع والوعي بالديمقراطية، وهي قادرة بالفعل أن تصنع رأيا ديمقراطيا موائما للثقافة، غير منحاز للديمقراطية، او مهملا للانسجام الثقافي مع آلياتها.
وواحدة من الإجراءات التي تملكها الطبقة المؤمنة بالديمقراطية هو التعاطي مع العناصر الثقافية والحاجات المجتمعية، فإن كانت إحدى أدوات الديمقراطية المهمة هي الانتخابات، فيمكن ان تتثمل بإشارات وعلامات والوان وشعارات، هي جزء من المنظومة المعبرة عن المجتمع تجعل من الجمهور متفاعلا معها، يتقرب الى الانتخابات من خلالها كونها ممارسة رمزية ثقافية فضلا عن كونها ديمقراطية.
فان امتلاء الشوارع باللوحات الاعلانية للمرشحين قد لا يتابعها الكثيرون، كونها لا تمثل لهم أهمية، خصوصا ان كثيرا من الناس يراها بانها تشويه للمدينة لا أكثر. بينما سيكون التفاعل معها بصورة أكثر إذا كانت جزءا من المنظومة الثقافية، كالإشارات التي تنتمي الى الثقافة العراقية او الألوان، فكل لون يعبر عن الجهة الثقافية التي يريد المرشح تمثيلها، فهو ينجح من جهة استقبال إعلانه والتفاعل معه كونه جزءا من منظومته من جهة، ويكون مقنعا للجمهور على المستوى الشخصي، عارفا بمحفزاتهم الثقافية من جهة أخرى.
فاذا كان المجتمع يعطي قيمة لاختصاص معين كأن يكون العامل، او الفلاح، او المقاتل، او المثقف، فلا يمكن ان تكون الدعايات الانتخابية خارج ذلك السياق، والا فإنها حتما ستكون عرضة للإهمال وعدم التفاعل كأقل ردة فعل يمكن ان تحصل.
او ان المجتمع يتفاعل مع ألوان معينة، كاللون الأخضر مثلا كمعبر عن الايقونة الإسلامية فان وجود هذا اللون في صور المرشحين يضيف لها قيمة انتخابية. 
 
المفاهيم المجتمعية 
هذا هو الذكاء الانتخابي الذي يتطلب وجوده في المرشحين، ولا يمكن تحقيقه ذاتيا بصورة مستمرة، بل ضرورة ان يكونوا مواظبين على التعامل مع المراكز البحثية التي ترشدهم على الاليات الصحيحة المتوافقة مع المجتمع. 
اذ تكتشف المراكز البحثية بصورة مستمرة المفاهيم المجتمعية والحاجات المتغيرة، وطريقة التعاطي معها، فان كان مثلا المجتمع يطلب الوضوح في الخطاب ولا يتعاطى مع الشعارات التي تملك أكثر من دلالة. وبالمقابل تكون الدعاية الانتخابية متضمنة رموزاً تتطلب تفسيرات ودلالات معينة، او إن قضايا الحاضر والمستقبل تمثل دورا مهما حياة الناس، بينما يركز المرشحون على القضايا التاريخية، او بالعكس. فان ذلك التناقض بين ما يطلبه الجمهور وبين ما يفعله المرشحون، قد يكون واحدا من الأسباب المهمة في مقاطعة الجمهور او اهمال الأجواء الانتخابية.
 أن تكون معبرا عما يفكر به الجمهور فهي تساوي عشرات الإعلانات الانتخابية، التي تدفعهم الى المشاركة في العملية الانتخابية.
حتى في الكلمات والمفاهيم، حيث يحدد الخطاب المجتمعي الأنموذج الذي يسير عليه ذلك المجتمع، ويكون المرشح ممثلا لذلك الانموذج، سواء كان ماديا أو روحيا، إسلاميا أو رأسماليا او اشتراكيا.
وهناك منطلقات أخرى في التقارب الإعلاني بين خطاب المرشح والجمهور المستهدف، متعلقا بالحاجات الفعلية والآنية للمواطنين. فقد تكون حاجات الجمهور متعلقة بالسياسة او حرية الدين والمعتقد كما في اول انتخابات بعد 2003، ولذلك ركزت الكثير من الإعلانات الانتخابية على تلك الحاجات وكانت متوافقة مع الجمهور، ليس للمعرفة بالحاجات من قبل النخبة السياسية فحسب، بل لاشتراكهم معاً في الهمّ الواحد والمتطلبات، الا أن الظرف تغير ولم تكن المعاناة واحدة، فقد تحولت النخبة الى سلطة، وتحول الجمهور الى مطالب لحقوقه منها بعد أن كان يدفعها لتمثيله في تحقيق احتياجه، ولم تكن العلاقة لوحدها هي من تغيرت، بل ان الحاجات تغيرت، بعد ان كانت الحرية السياسية والدينية هي الهدف الأول للجمهور، تحول الاحتياج الى جوانب اكثر تفصيلا بعد أن حصل على الحرية في الانتخاب، وممارسة طقوسه وشعائره الدينية، وجاءت بعد ذلك الحاجة الى الامن، فكانت حاجة الجماهير للأمن تتقدم على الحاجات الأخرى، وليس بالضرورة أن تكون تلك الحاجات موجودة في انتخابات 2021، كون الحاجات الدينية والسياسية وربما حتى الأمنية بعد تحسن الظرف الأمني، فقد اشبعت، بينما حصل فراغ كبير في الحاجات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، وفي ذلك ضرورة كبيرة لعمل دراسات تعكس الحاجات المجتمعية بين فترة وأخرى، كون المجتمعات التي تفضل مرشحا قد يكون خبيرا في السياسة في زمن ما، لم تكن هناك حاجة لإعادة انتخابه، لأن الانتخاب قائم على الحاجة، فقد تكون الجماهير تطلب القادرين على تطبيق القانون اكثر، او أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، خصوصا في الفترات الزمنية التي تكون فيها الدولة تعاني من العجز المالي او سوء التخطيط الاقتصادي. بالمقابل فان معرفة الأحزاب المشاركة في الانتخابات بتلك الاحتياجات يسهل الطريق عليها للوصول الى الجمهور، الا أن ذلك يتطلب منها عدم التمسك بمرشح دائم، يملك كل الاختصاصات، هو القانوني ورجل الدين والسياسي ورجل الاعمال.
والانسب هو ان كانت الحاجات (اقتصادية) فإن المرشحين الاقتصاديين هم من يكونون في مقدمة الحزب المشارك. او ان هناك حاجة (سياسية) فان محنكي السياسة هم من يملكون الفرصة للوقوف في صف الترشيح الأول. 
 
الحاجات الممثلة خطابياً
ستنعكس تلك الإجراءات على نسبة المشاركة الجماهيرية، فان وجد الجمهور حاجاته ممثلة في الترشيح الانتخابي عندئذ لا يوجد مانع في المشاركة، بينما إذا كان الترشيح غير متناسب مع الحاجات فان المشاركة ستكون غير مهمة بالنسبة له كونها لا تؤثر في حاجاته. 
واحدة من المشكلات التي تواجه بعض المشتغلين في السياسة العراقية في أنهم يطرحون الشخصيات نفسها بخطاب متغير يحاكي الحاجات. فمثلا ان كانت بحسب ظرف معين الحاجة الجماهيرية الى خطاب قانوني يبقى السياسي ذاته الذي كان يتحدث بخاطب سياسي، متحولا في خطابه الى الأسلوب القانوني، او ان المشتغل بالجانب القانوني فترة من الزمن لحاجة معينة او اختصاص له يتحول خطابه الى ديني، متجاهلا قضية الاختصاص معوّلا على قبول الجمهور لشخصه لا لخطابه، وبذلك هو يدخل الجمهور في ارباك الاستقبال الخطابي. ما يؤثر في اهمال ذلك الخطاب كونه مرتبط بعملية التوقع، وبما ان الخطاب خالف التوقع، فإن الجمهور المستقبل لذلك الخطاب يغادره، راسما لتوقع جديد بعدم جدوى ذلك الخطاب، كونه لم يكن صادرا من أصحاب الاختصاص.
بالمقابل يسلك السياسي الطريق الخطابي القابل للتأويل، أي ان كلامه من الممكن تأويله في شيء ما ونقيضه في الوقت ذاته، أي انه يصنع مناورة خطابية مع الجمهور ليبقى صادقا، حتى وان تغير موقفه مستقبلا، هذا من جانب، وحتى لا يقع في حرج عدم المعرفة بالاختصاص من جانب اخر. من المؤكد أن ذلك النوع من الخطاب هو ناجح كخطاب دبلوماسي في العلاقات الدولية، لكن كخطاب داخلي انتخابي سيكون مدعاة للقلق، خصوصا بعد سنوات من التجربة الانتخابية، ولذلك كانت اشارتنا الى أن الجمهور يبحث عن الوضوح في خطاب المرشحين ويتمثل ذلك الوضوح من ناحية تفضيل الحديث التصويري على الصور، وعلى كتابة الكلمات بدلا من الرسوم والشعارات، وعلى الصور الواقعية بدلا من الصور الرمزية. بل كلما كثر الكلام الانتخابي كان أفضل للجمهور، بدلا من الاختصار كون الاختصار يحمل تأويلات. فلا يحبذه، بل انه يثق بالخطاب الواضح المباشر بصورة أكبر.