الجفاف والتجريف وضعف مكافحة الآفات الزراعيَّة.. عوامل تسهم بانحسار بساتين النخيل

ريبورتاج 2021/11/04
...

   أحمد الفرطوسي - نافع الناجي
 
النخيل نفط لا ينضب، لكن المشهد هذه المرة لا يمت للحياة بصلة، فبعد أن كانت بساتين النخيل الخضراء الباسقة تعانق السماء الصافية، تحولت عمتنا النخلة الى أطلال نخيل، بل الى أعجاز خاوية، كأنما النخلة السماوية تواجه مصيرها المحتوم في الهلاك الأبدي، يقابل ذلك صمت حكومي مطبق، لا يحرّك ساكناً سوى انه يشاهد يومياً كيف تذبح النخلة مع سبق الإصرار والترصّد.
مواطنون يرون أن عوامل الجفاف وشح الأمطار، فضلاً عن تناقص عمليات مكافحة الأوبئة والآفات الزراعية، كلها عوامل قد تسهم في انحسار بساتين النخيل وتراجع أعدادها بشكلٍ مثير للقلق، بينما أشارت مديرية زراعة المثنى الى تحقيق زيادة بأعداد النخيل تربو على الأربعة آلاف نخلة عما كانت عليه قبل العام 2003، وأكد مختصون بأن بعض المشاريع المطروحة لا تتجاوز الاستهلاك الإعلامي، وان البساتين الحالية غير منتظمة، يضاف الى ذلك عدم استخدام وسائل الري الحديث في سقي البساتين، ما يشير الى صعوبة واقع النخيل القائم، والحاجة الماسة لمعالجات اكثر جدية.
 
«نخل السماوة يكول»
التدريسي في جامعة المثنى الدكتور عزيز الموسوي، أوضح لـ «الصباح»، أن «الشخصيّة العراقيّة نمت بصفاتٍ تشبه صفات النخيل وربّما النخيل استمدت هذا السمو وهذه الرفعة من الشخصيّة العراقيّة».
ويضيف الموسوي المتخصص بالشعر العربي والمعروف بميله صوب العيش بين بساتين النخيل، إنَّ «النخيل في مدينة السماوة (تحديداً) باتت ومنذ مئات السنين علامة فارقة تميّزت بها هذه الرقعة من الأرض، حتى صارت شاغلاً للأدباء ومنهلاً للشعراء الذين تغنوا بجمال النخلة وحجم عطائها الثريّ».
 
زحف الكونكريت
لكن في مدينة النخيل، تزحف اليوم الأبنية الاسمنتية وتتواصل عمليات قطع أشجار النخيل وتجريف الأرض لمساحاتٍ واسعة من اجل بناء الوحدات السكنية والمشاريع الصناعية صغيرها وكبيرها، وهي مشكلة أسهمت في تناقص أعداد النخيل في مركز المدينة.
المحامي والناشط المدني علي كامل رسول الطائي، يقول ان «النخلة السماويّة العراقيّة تعرّضت إلى ظلمٍ كبير طوال العقود الماضية»، ويستطرد قائلاً «هي تشبه الإنسان العراقي ايضاً، فالنخلة تلاحقها مشكلات الملوحة والتوسع العمراني والإهمال الحكومي وعدم حماية البساتين الحاليّة من الآفات التي تصيب النخيل».
 
التشريعات والإكثار النسيجي
وأضاف الطائي، إن «تجارب دول صحراويّة مثل الإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعودية نجحت في استزراع النخيل وتكثيرها نسيجياً، وإنتاج التمور فائقة الجودة وتصديرها إلى الخارج، لكنّ العراق يخسر في كل يومٍ العشرات بل المئات من أشجار نخيله».
ومشكلات النخيل لا تقتصر على الزحف العمراني مع وجود شحّة مائية وغياب للمكننة الزراعية وحملات مكافحة آفات النخيل التي ما زالت قاصرة عن مجاراة حجم التحدي الكبير الذي تواجهه بساتين وحقول النخيل الشاسعة.
الدكتور عزيز الموسوي، أضاف «ان القوانين المرعيّة لم تفلح في منع إرادات قطع أشجار النخيل وإبادة البساتين، وهو ما يؤشر الحاجة الى تشريعات جديدة وعاجلة من اجل حماية المتبقي من البساتين، فالنخلة بالنسبة للإنسان العراقي تتجاوز المعنى والدور الاقتصادي المتعارف عليه، اذ تفقد المدن جماليتها ورونقها حين تفرّط بنخيلها».
 
عودة إلى الواجهة
محطات إكثار النخيل هي واحدة من الإجراءات المعتمدة لتحسين وإكثار أعداد النخيل كمنتوج اقتصادي مهم  تراجع خلال العقود الأربعة الماضية، محطة نخيل الخضر التي شيدتها وزارة الزراعة بدأت بتجهيز الفلاحين الراغبين بفسائل لأنواعٍ نادرة من النخيل، وعلى الرغم من التحديات التي تواجهها البساتين نتيجة التوسع العمراني والشحّة المائية، إلا أن المساحات الجديدة التي زرعت بفسائل النخيل يمكن أن تعيد الأرقام السابقة لأعداد النخيل في العراق والتي فاقت الأربعين مليون نخلة في السبعينيات، وبما يحيلها الى مصدر اقتصادي ستراتيجي ويعيدها إلى الواجهة كهوية ثقافيّة عراقيّة مميزة، وهي حلول قال عنها الناشط المدني علي كامل رسول، انها تمثل البداية لكنها ليست الحل النهائي لما اسماه «الوجه الآخر للشخصيّة والثقافة العراقيّة». 
 
الزهدي للتصدير
وأمام غرق الأسواق بالتمور القادمة من دولٍ مجاورة وانحسار نسبي للتمور العراقيّة الممتازة مثل البرحي والقرنفلي والبربن والعمراني والشويثي والعسّافي وحلوة حجي عباس والبلقاء (البلكة) والمكتوم وغيرها من الأنواع خلال العقدين الأخيرين، تبرز محاولات دؤوبة لإعادة هيبة النخلة الرافدينية عبر مشاريع إكثار واستنبات بعض الفصائل المميزة كالمجدول أو المجهول والبرحي والساير والأشرسي وعشرات الأصناف الأخرى. 
وقد تكفّلت العتبات المقدسة في كربلاء بمشروعات واعدة في صحراء المدينة سميت بمشاريع (فدك) مع إنشاء برادات خزن للمنتوج، كي يتم طرحه شتاء بعد انتهاء موسم القطاف، وحسب ما علمنا فقد تمكن العراق من تصدير نحو 700 ألف طن خلال العام الماضي من التمور الى دول العالم المختلفة، وهنالك خطة قريبة بالوصول الى مليون طن سنوياً من التمر للتصدير الخارجي، ويشكّل الزهدي غالبيته لصلاحياته الغذائية والصناعية المختلفة. 
 
«صاعود النخل»
المزارع حسن عبيس، صاحب احد بساتين النخيل في السماوة، يقول «هل رأيتم ذلك الإنسان حين يصعد النخلة انه يحضنها، وهو يعاملها بحب وشغف وهي عزيزة عنده وتمثل له أهمية كبيرة في حياته».
مضيفاً «لا نستطيع فراق النخيل الباسق وبساتيننا العامرة حتى ونحن في أحلك الظروف، هي ماضينا وحاضرنا وكل تاريخنا».
 
تراث سومري
المهندس الزراعي علي حسين فرحان، يقول لـ«الصباح» «آخر إحصائية تفيد أن بساتين نخيل المحافظة بحدود ثمانية وعشرين ألف دونم، ونسعى لإكثارها وغرس المزيد من الفسائل سنوياً لزيادة اعدادها»، ويضيف فرحان «البلكة والبريم والبرحي وحلوة حجي عباس والأسطة عمران والزهدي، هي التي تكثر في محافظة المثنى، وكان سكان بلاد الرافدين قديما في سومر وأكد وبابل يعبدون الهة النخل ويزينون مدنهم وممرات معابدهم بالنخيل وسعفه ويستخرجون من ثمراتها الخمور والدبس والخل ويصنعون من سعفها وجريدها الأثاث ومن خوصها الحصر والسلال ومن جذوعها مادة للوقود وتسقيف البيوت».
الآفات والتجريف
يقول الفلاح احمد عودة «في السنوات الماضية كانت تأتينا الطائرات وتعالج البساتين برش المبيدات، لكن للأسف الشديد خلال الأعوام الماضية لم تعالج هذه البساتين من النخيل بالشكل المرجو»، وأضاف «هناك مجموعة عوامل دفعت أصحاب البساتين الى تجريفها وبيعها على شكل قطع سكنية، ومنها شحة المياه التي أدت الى هلاك أعداد غير قليلة من النخيل، ما دفع أصحاب البساتين الى هجرها، فضلاً عن ارتفاع اسعار الدونمات الى مبالغ مغرية تصل الى اكثر من 300 مليون دينار بواقع 35 مليون دينار لكل 300م».
ولفت عودة الى موضوع سحب يد الدولة من الإجراءات القانونية التي لا تتيح لأصحاب البساتين تجريفها او بيعها كقطع سكنية»، مشيراً الى أن «القانون إبان النظام السابق كان لا يسمح لصاحب البستان باستغلال اكثر من 300م لبناء دار خاصة به، في حين يمنع القانون بصرامة اي بناء يرتفع على النخلة، اي لا يسمح سوى لبناء طابق ارضي فقط، اما اليوم فأصبح البناء والبيع شيئاً متاحاً للجميع».
 
تراجع الإنتاج
أجمعت آراء المزارعين على أن قطاع الزراعة آخذ بالتدهور، وعزوا ذلك الى تراجع مستوى الإنتاج، وانخفاض أسعار المنتج المحلي رغم تكلفته العالية، ما دعا الكثيرين للعزوف عن الزراعة، والبحث عن عمل آخر أكثر جدوى، كما يقول المزارع فالح مهدي جواد لـ «الصباح»: «ان من اهم الأسباب التي جعلت واقع النخيل والزراعة يتراجع بشكل كبير هو عدم وجود الأيدي العاملة من الفلاحين خاصة بعد 2003». وأضاف، ان «ابن الريف الذي كان يمارس حرفة الفلاحة ترك هذه الحرفة واتجه للبحث عن وظيفة حكومية باعتبار ان مردود الأراضي انخفض ولا يتناسب مع الجهد المبذول والمصاريف التي تقدم له وبالتالي تجد اغلب الفلاحين تركوا هذا العمل لعدم جدواه».
 
تأهيل البساتين
من جهته، يقول مدير زراعة المثنى عامر جبار الجابري لـ«الصباح» ان هنالك مشروعا معمولاً به الآن لإعادة تأهيل البساتين المتضررة واستبدال أشجار النخيل الهالكة وتنمية البساتين عبر تقديم القروض لأصحابها، بالإضافة الى تقديم الإجازات للمزارعين داخل المحافظة بعد ان كانت مقتصرة على الهيئة العامة للنخيل في بغداد».
واضاف «ان مديرية زراعة المثنى استطاعت من خلال تكثيف حملاتها التي تشتمل على توزيع المبيدات الزراعية ومكافحة الحميرة والدوباس من تحقيق زيادة في أعداد النخيل بالمحافظة، فقبل عام 2003 كانت مساحة الأراضي المزروعة بالنخيل تصل الى 11600 دونم، وبعد سقوط النظام أصبحت بحدود 15 الف دونم» مستدركاً «لكن ما يؤسفنا ان اغلب المزارعين قاموا بتجريف البساتين وتحويلها لأراضٍ سكنية لغرض الربح السريع وهذه مسألة خطيرة جدا ومشجعة بشكل كبير لظاهرة التصحر»، واشار الى انه «كان هناك مشروع الحزام الأخضر بالاتفاق مع شركة المانية للقضاء على التصحر في المحافظة لكن هذه الشركة تنصلت عن تنفيذه ما دعانا الى اللجوء للعمل بصورة مباشرة، اذ شكلت لجنة لشراء الأشجار المناسبة لتحمل شح المياه ونوع التربة اذ تمت زراعة 5 كم كمرحلة أولى».
 
إهمال وعدم انتظام
 ويرى الدكتور يحيى كريدي جلاب رئيس قسم الإنتاج النباتي في كلية زراعة المثنى، «ان أسباب تراجع النخيل بالعراق الى المرتبة السادسة من حيث تعداد النخيل بعد ان كان بالمرتبة الأولى، لأن البساتين الموجودة حاليا هي بساتين قديمة غير منتظمة في الخطوط والمسافات، ومختلطة الأنواع والأصناف ومختلطة من حيث الأنواع المتساقطة والدائمة الخضرة»، مضيفاً «تمتاز بساتيننا بالاهمال من حيث خدمة التقليم، ومكافحة الأمراض، والحشرات، والأدغال، والتسميد واتباع طرق الري الحديثة». وأضاف «كما أن بعض أصحاب البساتين قاموا بزراعة الرز إلى جانب هذه البساتين، والبعض الآخر انشأ أحواضاً للأسماك وكلاهما أدى الى تغدق وتملح الأراضي وزيادة هذه الأملاح سنويا تؤدي الى ضعفها وقلة انتاجها ورداءة نوعيته وتلف الكثير منه».
وبيّن كريدي «أن عدم اهتمام الفلاحين ببساتينهم وتوجههم لإيجاد بدائل بما أوجدته الدولة من وظائف بالإضافة الى ارتفاع كلف الأسمدة والمبيدات، وعمليات التلقيح والتكريب والتقويس ومكافحة الحشرات والأمراض والأدغال مع ضعف الدعم الحكومي اللازم  أدت الى عزوف الفلاحين عن الاهتمام بالبساتين وهجرها وبالتالي تصبح بواراً ثم تتصحر تدريجيا».
وفي الختام يجد المستهلك العراقي نفسه أمام حلم الحصول على تمورٍ عالية الجودة ورخيصة الثمن، والاهمّ من ذلك هو أن تشرب النخلة من ماء الفرات ودجلة وهو ما يصرُّ عليه الدكتور عزيز الموسوي كشرط أساس لإعادة الهيبة إلى النخلة العراقيّة.