تصنيف أدب الجائحة

منصة 2021/11/09
...

 ميغ شارلتون
 ترجمة: جمال جمعة

الروايات الوبائية
إلاّ أن الناس لم يُردعوا. على العكس من ذلك، فقد تعطشنا جميعًا، على ما يبدو، لمزيد من خرائط الطريق الروائية، وحاولت الكثير من وسائل الإعلام العثور عليها. ناشدتنا صحيفة {لوس أنجلوس تايمز} أن نلجأ إلى السينما التي تتمحور على الأوبئة لفهم واقعنا الجديد. مجلة {الأدب الكهربائي} وضعت قائمة بالروايات الوبائية. وكذلك فعلت {فلتشر} و}نيويورك تايمز}. {الخوف من الأسوأ؟}، تساءلت صحيفة التايمز، {الأدباء يفعلون ذلك منذ قرون}.
لكن هذه القصص لا تظهر لنا جميعا نفس الأسوأ. أدب الجائحة، مثله مثل الأمراض التي يصوّرها، له سلالات مختلفة، ولكل منها خصائصها المميزة. يمكن تقسيم هذا الصنف، على ما أعتقد، إلى فرعين رئيسيين: الأعمال التاريخية والافتراضيّة، ومن ثم تنقسم الافتراضيّة بدورها إلى صنوف أكثر. قد يبدو تصنيف هذه الفروع مثل تفريق الشَّعر. ولكن من خلال فحص ما نحصل عليه من هذه النصوص ولماذا نواصل اللجوء إليها للحصول على إجابات، قد يساعدنا في قطع عادة القيام بذلك. {المشكلة هي خيالك}، يكتب فرانشيسكو باسيفيكو وهو تحت الإغلاق في روما، {توقّفْ عن استخدام الديستوبيا* كبوصلة}. وبعبارة أخرى، توقّف عن التفكير في أنك تعرف ما هو قادم.
بعض أعمال أدب الجائحة هو قصص تاريخية مرتبطة بأمراض حقيقية، وأوقات حقيقية. {حصان شاحب، فارس شاحب}، {الديكاميرون}، {ملائكة في أمريكا}، سواء تمت كتابتها بالتزامن مع الأزمات التي وصفتها أو بأثر رجعي، وسواء وظّفت الواقعية المباشرة أم لا، فإنها معنية، جوهريًّا، بخصوصيات العالم كما هو. إنها أعمال من الأدب الروائي التاريخي أو على الأقل ستصبح كذلك، بطريقة ما، عبر مرور الزمن.
 
السلالة الافتراضيّة
لكن هذه الأعمال التاريخية، بشكل عام، ليست تلك الأعمال التي لجأنا إليها في هذه الأسابيع الغريبة. من أجل لغة مشتركة لسيكولوجيتنا الجماعية، يجب أن ننظر إلى السلالة الأخرى، الافتراضيّة. بالنسبة لجميع أسلافها التاريخيين أو المستشارين العلميين، فإن الجوائح التي تصفها خيالية. ويبدو أن هذا هو الذي يأسر خيالنا، ربما لأننا نتوق إلى التنبؤ. {المستقبل المنظور}، مثلما نردّد على الدوام، كما لو كان بإمكاننا التكهّن بأيّ شيء. في وقت يصعب فيه تخيّل المستقبل، من المنطقي أن نجد العزاء في أولئك الذين جربوا فعل ذلك من قبل. من المنطقي أيضًا أن نأمل (أو نخشى) أنهم فهموا الأمر بشكل صحيح، لأن حتى هذه الخشية هي نوع من الأمل. على الأقل أنها تعني أن هناك من يعرف ما هو قادم. إن التفكير بأن البوصلة تقودنا إلى مكان مظلم ما، هو أقلّ إرعابًا من عدم وجود بوصلة على الإطلاق. لكن مؤلفات الجائحة الافتراضية ليست موحَّدة. أنا أرى نوعين فرعيّين مستقلّين، لكل منهما مجالاته واهتماماته الخاصة. دعونا نصف هذه على أنها فَرَضيّة 
وخياليّة.
السرديات الافتراضيّة، كما يوحي الاسم، هي قصص {ماذا لو؟}. أبطالها يجلسون، إن لم يكن في أروقة السلطة، فعلى الأقل بالقرب منها. نشاهد مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية، والأطباء في الخطوط الأمامية. تأمّل روايات {سلالة أندروميدا}، و}التفشّي}، و}العدوى}. النبرة الدلالية لهذه النصوص هي أن عناوينها تحمل مسحة إكلينيكيّة. هناك الكثير من الوقت في المختبرات، والحوارات مثقلة بمختصرات اسماء المكاتب الحكومية. إنها معنيّة بشدّة بالطرق التي تنتشر بها الأشياء، وآليات الحركة البشرية، والسلوك السياسي. المرض، إذن، هو محفِّز. إنه الشيء الذي يقودنا من خلال شجرة القرار*، والذي يتيح لنا رؤية السُّبُل التي يمكن فيها أن تنحني أنظمتنا أو تنكسر كردّ فعل على اختبار قدراتها. تمتلك هذه القصص، بشكل عام، متعة أشبه بمتعة اللسان على موضع الحرق في سقف حَلق المرء ـ آلامها قهريّة، مقبولة، مطهِّرة، بالمعنى الدراميّ التقليدي للمصطلح. إنها تتيح لنا العزف حتى نهاية سيناريو أسوأ الافتراضات وتطهير خوفنا من خلال تجربة غير مباشرة. 
رواية لورنس رايت المقبلة {نهاية أكتوبر}، من شبه المؤكد أنها سوف تندرج ضمن هذه الفئة. يقول إنه بدأ بسؤال: {كيف يمكن أن تنهار الحضارة البشرية إلى هذا الحد؟} هذا هو السؤال الذي، كما أعتقد، يكمن في قلب الصنف الافتراضي. إنه يركّز على الكيفيّة. فيما تركّز القصص الخياليّة، من جانب آخر، على الانهيار.
 
اختبار ضغط للروح
إذا كانت السرديات الافتراضية اختبار ضغط للحضارة، فإن السرديات الخيالية هي اختبار ضغط للروح. يميل التركيز فيها نحو الباطن أو إلى الأعلى، إلى أسئلة حول الأخلاق، والحب، والفن، والله. هذه الروايات هي مثل {العمى}، و}قطع}، و}الطاعون}، روايات أكثر باطنية، وغالبًا ما تكون ميّالة أكثر للتنبؤيّة الكارثية. إذا كانت هذه الأعمال تأخذنا إلى أروقة السلطة هنا، فعادة ما يتم التخلي عنها، ويكون سكانها السابقون موتى أو يحتضرون. لكن هذا هو جوهر جاذبيتها. نريد أن نقرأ عن الشخصيات التي ترتفع أو تهوي في الحدث، لأننا نحب أن نفكر فيما سنكون عليه. ثمة جاذبية في التفكير بأن العالم الذي سيُمحى تمامًا سيمحو خطايانا معه، أو على الأقل بعض نقائصنا. سنكون أفضل، ربما، وأكثر بطولية، أكثر عدلاً، وأكثر أنفسنا. إنّ جاذبية الصنف الخيالي أقرب ما تكون إلى روايات ما بعد نهاية العالم الأخرى، التي وصفها إيلمو كيب في بلاغة بأنها شكل منحرف من أشكال تحقيق الرغبات: {إذا حدث هذا بالفعل،} يتساءلون، {ما هو نوع الشخص الذي سأكونه؟}، أو كما قالت شيرلي جاكسون في رواية {المِزوَلة}، محاولتها الخاصة في نهاية العالم: {تريد أن يتغير العالم بأسره، فقط لكي تكون مختلفًا}.
تميل الأمراض في الروايات الخيالية للإحساس بأنها مجازيّة بصورة أكثر وضوحا من تلك التي في الفئة الافتراضية، وأقلّ ارتباطًا بالآليات الدقيقة للفيروس المتخيَّل. (الأفعال المتكررة لضحايا حمّى الشين في رواية {قطع}، على سبيل المثال، مقابل خبطة الجهاز التنفسي ـ العصبي المزدوجة في رواية {العدوى}).
لكن ليست طبيعة المرض ذاتها هي التي تحدد هذه الفئات؛ قد تكون الإنفلونزا الجورجية في رواية {المحطة الحادية عشر} منطقية على نحو أكثر دقة من جحافل الزومبي في رواية {حرب الزومبي العالمية}، لكنني سأجادل بأن الأولى خيالية والأخيرة افتراضية. نص رواية {حرب الزومبي العالمية}، مع صياغته كتاريخ شفاهي خيالي، يمتلك العديد من القواسم المشتركة، من الناحية النغمية، مع العالَم الإكلينيكي لستيفن سودربيرغ أكثر مما مع {المحطة الحادية عشر}، بمغنّيها المتجولين والقوائم الكئيبة لما افتقدناه. {حرب الزومبي العالمية} منظومات أكثر، {المحطة الحادية عشر} أرواح أكثر.
 
زقاق مسدود وغريب
ثمة مقطع فيديو شهير لرؤساء بلديات إيطاليين يوبخون ناخبيهم بسبب خروجهم إلى الشارع، وفيه يقول رئيس البلدية ريجيو كالابريا: {انظر، هذا ليس فيلمًا. أنتَ لست ويل سميث في فيلم (أنا أسطورة)، لذا عليك العودة إلى المنزل!}. إحالته معبّرة. إنه الخيال الذي يرسم، أكثر من التاريخ، حدود تصوراتنا الجماعية، ولا شيء أكثر من ذلك مثل الخيال العلمي. 
نحن نُشبعه بقدرات نبوئية، ونجادل في ما إذا كان أورويل أو هكسلي {مصيبين} كما لو كانا مستقبليَّين يصوغان استقراءاتهما وليسا كاتبين يصنعان الفن. لا نحتاج إلى النظر أبعد من رواية رايت المذكورة آنفًا، والتي تُدعى بالفعل {تنبؤيّة}، لنرى أننا ما زلنا نفعل ذلك. يمكننا الجدال في أن ذلك غير ضارّ، بل ومفيد حتى. لكننا عندما ننظر في رواياتنا لنتصور مستقبلنا، فإنها يمكن أن تقودنا إلى زقاق مسدود وغريب، وتتركنا تواقين للسيارات الطائرة وشاشات المسح البغيضة التي تعمل باللمس. يمكنها أن تقودنا أيضًا إلى الغطرسة، إلى بعض الاعتقاد بأننا رأينا هذا الفيلم ونعرف ما سيحدث، وبأن واحدنا مع ذلك يمكن أن يكون ويل سميث، بطل هذه القصة، مستثنى من المخاطرة، وفي مركز الرواية. وبأننا سننجح، ربما، حتى ولو لم يفعل الآخرون.
لا ينبغي أن نمضي من دون قصص. باسيفيكو يقترح تولستوي، وأنا أوافقه على ذلك. إذا شعرتُ بحكة تجاه أدب الجائحة، فسأختار الخصلة التاريخية بدلاً من الافتراضية. مما يثير الهدوء، بطريقة غريبة، التفكير في فلورنسا المحتضرة في {الديكاميرون} ومعرفة أنها لم تشهد بعد عصر النهضة أو الفاشيَّة، وأن كل آمال وأهوال قرون التاريخ تكمن أمامها، كمستقبل لها. ربما يكون هذا عزاء لا ينفع ولا يشفع بالنسبة للبعض، لكنه يريحني من التفكير في أنه في الصورة الكلّية، تنهار الأشياء ولكن ببطء، وهذا يعني أنها تتغير. وأن نهاياتنا، بشكل عام، هي أنين أكثر مما هي دَويّ. إنها تذكّرني بكلمات جماعة {مشروع الجبل المظلم} Dark Mountain Project، وهم مجموعة مكرسة لتغيير القصص التي نرويها لأنفسنا حول تغيّرات المناخ: {نهاية العالم كما نعرفها ليست نهاية العالم بالكامل}. لكن أغلب ما آمله هو أن أبقى مدركة لتفاصيل حياتنا الآن، لتيار الحاضر الذي يحملنا حاليًا معه. ألاّ أقارن ولا أتخيل، بل أستشفّ. في الليلة الماضية، تحدثت مع صديقة من المحتمل أن تكون قد تعرضت للإصابة، وتجاذبنا أطراف الحديث حول {الأعراض}، فضحكت وقالت: {إنه يبدو مثل حوار من فيلم سيئ}. حتى إذا كانت على حق، فلا يهم. لقد كان ذلك ما كنا نتحدث عنه. كانت تلك حياتنا، وستظل هكذا لبعض الوقت في المستقبل الآتي. ليس ثمة رواية تخبرنا كيف ستنتهي.
 
Slate