الباب الوسطاني.. سحرٌ سياحيٌّ مهمل اقتصادياً وجمالياً

ريبورتاج 2021/11/09
...

 بغداد: محمد اسماعيل
 تصوير: نهاد العزاوي
تزخر بغداد ببوابات تميل دائماً للانفتاح على المحيط الإنساني، من دون خوف ولا وجل؛ نتيجة لشجاعة أهلها واثقين بفروسيتهم وعلمهم وأدبهم، فهم مركز الجمجمة كما وصفهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «جمجمة العرب». أحاط أبو جعفر المنصور، بغداد (762 – 768م)، بسياج وجدار عالٍ ذي أبواب أربعة، هي: (باب الطلسم) هدم عام 1918 وأبواب (الشام) و(البصرة) و(خراسان) و(الكوفة) التي اندثرت وما زالت هناك آثارٌ حزينة تطل من كوَّة غير نافذة على الزمن، تذكر بقصورنا عن حفظ حرمة الأسلاف.
ثمة أبواب ثانويَّة، عند بناء المنصور بغداد، أصبحت الآن أساسيَّة: (المعظم) تهدم جزءٌ كبيرٌ منه بالتقادم، وأجهز الجيش البريطاني على ما تبقى مطلع القرن الماضي، (الشرقي) حوله العثمانيون برجاً واتخذه الإنكليز كنيسة هدمت عام 1937، و(الآغا) و(الشيخ) نسبة الى مرقد عبد القادر الكيلاني.. تقدس سره، وهي تسمية استحدثت في ما بعد.. ليست في أصل البناء، (الوسطاني) باب الحلبة، يقع قربها جامع الشيخ عمر السهروردي، نسف الجيش العثماني أجزاءً رئيسة منه، عند الانسحاب مهزومين أمام مقدم الإنكليز، آثاره باقية إلى الآن تحاذي الخط السريع.. محمد القاسم.
 
خادم الظفرية
يقع الباب الوسطاني في محلة الظفرية وقربها مقبرة عباسية تعرف باسم المقبرة الوردية؛ نسبة الى الشيخ شهاب الدين عمر السهروردي، أما الظفرية فمنسوبة إلى ظفر.. أحد خدم دار الخلافة العباسية.
استقبل «الصباح» في الباب الوسطاني، أحد موظفي الهيئة العامة للآثار والتراث عمر عبد الخالق.. ماجستير سياحة أثرية، مرحباً: «المَعْلَمُ مفتوحٌ للزائرين بأجور رمزية 1000 دينار لطلبة المدارس و2000 للجامعات و3000 للرواد و25 ألفاً للأجانب».
سألناه: من يزور مكانا مترباً يمزق ثيابه الشوك والعاقول.. لا كهرباء ولا إضاءة ولا تواليت ولا ماء ولا مكان استراحة، سوى مساطب تهرأ خشبها وتصدأت أعمدتها الحديديَّة، تنخسف بالجالس وتنذره بخطر العقارب والأفاعي؟ أجاب: «مهمل منذ آخر صيانة في 2013 ولم تكن بالجدية الكافية لجعله مكاناً يطيقه بشر». مضيفاً: «لا توجد ثقافة سياحية في العراق.. رسمياً وشعبياً توقفت الدورات التطويرية للسياحيين منذ 2000 وستستمر الى 2025 وهي مفتوحة للآثاريين فقط؛ وهذا يشير الى الاهتمام بالآثار حصراً وعدم تطويعها سياحياً، فثمة اضطراب في فهم المصطلحات وبالتالي تخبط في الأداء الميداني، بين السياحة وتوظيف الآثار فيها».
أكد عبد الخالق: «الوسطاني هو السور الشرقي من جانب بغداد، يتوسط سوق الظفرية، ويسمى أحياناً (باب خراسان) لاتجاهه نحو خراسان»، مؤكدا أنَّ «السور يبدأ من (الباب المعظم) في الأعظمية، ممتداً الى هنا.. الباب الوسطاني، ويستمر نحو باب الطلسم تحت جسر النهضة حالياً وينتهي بالباب الشرقي (باب كالود) إعدادية العقيدة للبنات حالياً».
ولفت الى أنَّ «المسترشد بالله اتخذه سجناً وبنى مدحت باشا، القشلة بكمية كبيرة من طابوق السور، وفي العام 1938 استفادت الملكية منه مخزنَ أسلحةٍ، مساحته 7,5 دونم، أنشئ محاطاً بخندق ماء ذي قناطر ترفع وتنصب بمرونة عند اللزوم؛ لحماية بغداد من الغزاة»، مفيداً «بني بطابوق فرشي.. لِبِنٍ مثبت بالنورة والجص، اللذين أعدنا استخدامهما عند الترميم في العام 2013 بإشراف خبراء دائرة الصيانة في هيئة الآثار، وهو غير مدرج على لائحة التراث العالمي».
 
الذئب يأكلنا
جدران سميكة، تحيط تأملات الباحث عن آخر قدم غازية عجزت كل هذه المتاريس عن صدها، فانتهكت حرمة بغداد إحدى وعشرين مرة، آخرها يوم الأربعاء 9 نيسان 2003 وما زلنا ننوء بانتهاكات شتى، اقتصادية وعسكرية وسياسية وعاطفية، إذ لا جدار في الروح يقيها زحف الانهيارات الساعية الى ثلم العقل، «أنه الذيب وآكلهم.. أنه الأم وأحميم» لا أم لنا تحمينا؛ فبقينا نهب خطم الذئب وأنيابه والمخالب.
سمك جدار السور ثلاثة أمتار، بارتفاع 14 متراً، قال عمر ممتلئ ووجدته مجوفاً بدليل التخسفات التي تحراها عمر؛ فوقف حائراً، سور حديدي من الخارج، يحيط المصاطب المتهالكة، وسط أحراش الشوك التي تشير الى الـلا جدوى.
تفصل الخط السريع عن الباب الوسطاني قبور معظمها تهدم متآكلاً، تلتحم حافة السور بتراب المقبرة.. يقطع محيط الباب ممشى كونكريتي مستحدث يجرد المكان من أثريته.
عدم استثمار السياحة لا يقل ضرراً عن هدر المال العام في أرصدة الفاسدين،. مخازن وفيترية وشركات ومعامل وكراجات، تخنق المعلم الأثري الذي تنص قوانين اليونسكو على ألا تنشأ أية بناية على بعد أقل من مئة متر.. إنه «استندر» عالمي نفرط به غالباً ما يلقي الفيترجية زوائد الحديد ورماد النار في محيط السياج الحديدي للأثر، الذي يتوجب إنشاء واجهة جذابة للسياح، وليست منفرة تطرد الزائرين، كأنها تنفث التراب في الوجوه.
خشيت الجلوس على مصطبة فيخسف بي خشبها ويتهاوى حديد المظلة على رأسي.. بالنتيجة بلغت الممر ولحقا بي كلاهما.. عمر ونهاد.. امتعض عبد الخالق: «وجود المخازن وورش التصليح ونادي الأمانة الرياضي، غير قانوني.. رفعنا تقارير الى الهيئة ولم نستحصل قراراً قضائياً بإزالة التجاوزات عن محيط المعلم.. أحد المخازن أغلق نافذة التذاكر؛ فأحدثنا فتحتة أخرى، خاضعين لإرادة التجار، وبقي الممشى الكونكريتي يؤدي الى سياج مغلق وليس الى مدخل، بل وانعطف مسار دخول الموظفين الى كرفانات الدوام اليومي.. ولا زائر»، مواصلاً: «الموقع اسطواني يقع في المحلة 219 العزة على مساحة 118 متراً مربعاً.. أي 7,5 دونم».
 
ثقوب جدارية
درج أثري مرت عليه ملايين الأقدام منذ أنشئ والى أن تهدم، تسلقنا بقاياه بصعوبة خطيرة، وآخر جرى ترميمه عشوائياً بطابوق جمهوري، مسحه من لائحة التراث العالمي.
وقفت على الممر أتأمل السور الخارجي من الداخل، برج عالي الضخامة فاره القوة، يمتد جدار السور منه، وقد ثقبت فيه مزاغل رصد يمكن للحرس إطلاق السهام منها على الغزاة.
سمعت تأوهات بلغات شتى، سقطت عند أسوار الباب الوسطى، وأصغيت الى زهو الجنود يتفاخرون بصد الأعداء، يردونهم عن بغداد.. تستعيد حريتها بيضاء من دون سوء، كلما دنسها غازٍ محتل أثيم.
مزاغل رصد ثقبت في الجدار، على شكل صفوف متراتبة، تتفاوت في المواقع؛ كي يصطف الحماة خلفها يقاتلون وهم آمنون.
تعقب «الدنكة» العظمى مستطيلات تشد الجدار بمتانة واضحة أريد بها رص الحائط أماناً.. تحف جانب السور دكات يبدو أنها يراد بها وقوف العرفاء تعداداً للجنود عند تبادل وجبات الحراسة، تحت مهابة أبراج جانبية وقبة رئيسة مفتوحة من قوس أرضي الى السماء، في قلعة لا تقهر؛ لأنَّ ثقوبها نافذة في جدران تطلق سهاماً وتسقط أحجاراً تسحقان العدو وترديانه قتيلاً فيعجز عن اقتحام بغداد.
غزاة قادمون من عمق الفلاة المفتوحة على المجهول، تتلقاهم بنادق مطلع القرن العشرين، تمطرهم بوابل من رصاص بدائي، كان فاعلاً حينها، وهي ذات الثقوب التي عالجت مقدم غزاة القرون السالفة، الذين انكسروا على أعقابهم أمام حمم منجنيقات البغداديين قبل اختراع البنادق ويسمونها «تفك ماطلية» نسبة الى منشئها.. جزيرة مالطا.
 
أتراك وإنكليز
عجز الأتراك عن التمترس وراء الباب الوسطاني في صد الانكليز 1918 فآثروا تهديمه والهروب، لكن أجزاء ظلت شاخصة منه، تروي مجد العباسيين في بغداد..
اربعة صفوف أفقية من ثقوب غائرة تنزاح عن بعضها عمودياً؛ كي تتيح للجنود الوقوف رهطاً الى جانب بعضهم، تخيلتهم يتوزعون بين شجاع يقاتل مؤمناً بحرمة بغداد على طالبيها، والى جانبه مهزوز يستقوي به، فيتماسك.. والثالث متهور يكاد يشق الجدار السميك خارجاً الى العدو يقاتله.. والرابع هزمه الذعر فكاد يموت بخلطة تسفر عن الفارق بين خوف الرجال ورعدة الجبناء.
تابع عمر عبد الخالق: «لا تفكر الهيئة بإنشاء متحف هنا، ولو هي فكرة ناجحة جداً؛ لأن الموقع يتوسط باب المعظم وشارع فلسطين، حتماً سيكون الإقبال عليه كبيراً؛ والأسر يطيب لها أنْ تزوره عصريات لو تم تنظيفه وغرس الاشجار والورود وتوفير مطاعم وكافيهات فيه؛ ليتحول الى منتجع أسري بهيج على هامش المتحف وفي إطار المَعْلَمِ التاريخي الشاخص»، مشراً الى أنَّ «هذه النفقات لا تعني شيئاً بالقياس الى ما سيحققه الموقع من أرباح.. أتحفظ عليها خشية إقدام المستثمرين على المساس بالقيمة الأثرية، وهذا وارد لأنَّ أية رقابة ستعجز عن منع التجار من زحف أرباح على حرمة الماضي».
بيَّنَ أنَّ «المسافة من السياج الى نهاية الممر 170 متراً تنتهي بمخزن الاسلحة الملكي 1938».
قبل ارتقاء درج من الفرشي، ثمة كابينتان زجاجيتان يقف في كل واحدة منهما، جندي بثياب عسكرية مدرعة بزرد الحديد، إيوانات خارجية للمقاتلين تليها أخرى مركزية في الداخل، أكبر وأشد منعة؛ فإذا سقط خط الدفاع الأول بقي الثاني صامداً، تحت إيوانات قوسية تتسع لثلاثة جنود، لها سقوف مدببة نحو الفضاء، ينتظم الطابوق أفقياً لكن نهايات الأقواس تعارضها دائرياً وهي تنزل من منتصف الأعلى الى الأسفل بالتوازي.
المصد الداخلي بسمك ثلاثة أمتار، تخترقه ثقوب، تسمى تاريخياً «مغازل»، وحديثاً «مزاغل.. جمع مزغل وهي كلمة فارسية تعني المنفذ» يبدو أنَّ إحداهما محرفة عن الأخرى.
 
تجاوزات فاصلة
ثلاثون متراً تفصل السور عن المتجاوزين وخمسة واربعون عن نادي الأمانة، بينما «الستندر» العالمي ينص على مئة متر.
بعد دورة في متاهات القلعة المركزية، أوضح عمر: «خرجنا من بغداد الى خراسان، وعدنا في دورة واحدة، بالحسابات العباسية؛ عندما دلفنا على شكل حرف (L) فالدخول الى القلعة المركزية التي يمر من تحت الماء وينفذ عبرها الناس، ليس مباشراً بل على شكل حرف إيل باللغة الإنكليزية».
دخل الـ (L) من تحت قوس بارتفاع خمسة أمتار في قلعة من 14 متر، وهي بناء هائل مثمن الأضلاع، بقاياه مبهرة فكيف به في عز بهائه.
داخل القلعة المركزية إيوانات ذات سقوف قوسية مدببة، تتماسك من دون حديد، إنما وفق هندسة البيضة التي تشد السقف بالتراص، وتنفذ منها مزاغل دفاعية.
ممر فرعي يراد به مفاجأة الغزاة التفــــــــافاً لأسرهم؛ ذو ستة إيوانات من كل جانب، أي اثنا عشر إيواناً بكامل الثوب المزغلية المتبعة في مفاصل الباب الوسطاني.
أسدان على جانبي قوس الدخول الى ممر المفاجآت الفرعي، تعلو قوسه المدبب نحو الفضاء زخارف هندسية ونباتية إسلامية.
سياج البوابة من الأعلى مثل كل القلاع الرومانية، مدرج تتخلله ثقوب يتحصن فيها المقاتلون لاجئين الى قوة الجدران لتحاشي ما يطلقه الغزاة. داخل السور بغداد وخارجه خراسان، وفق الخرائط التي لم تعترف بها الدولة العباسية إبان قوتها «الحق للسيف والعاجز يدور إشهود». أوضح عمر: «بدءاً من باب المعظم، الى الباب الشرقي، يحف خندق الماء بالسور، وجوانب القلعة مفتوحة على ارتفاع شاهق، من دون سياج، وهذا غير معقول، لا بُدَّ من وجود بناء ما زال خلال عمليات التهديم العثمانية والبريطانية التي شهدها تاريخ العراق»، مستدركاً: «ربما أبواب خشبية استولى عليها متنفذو زمانهم، بعد إفول العباسيين».
 
نفير عسكري
هندسة دفاعية تضلل الغزاة، والحامية المتوفرة تعالجهم، ريثما يعلن النفير بمجيء القوات العباسية بكامل هيبتها، تتكفل بهم. السور يقي الحامية من أي خرق إذا الحراس يقظون؛ لأنه منيع يتعذر تخطيه، لكنَّ هناك 21 تخطياً لحرمة بغداد، احتلتها الجيوش عبر التاريخ.
 
تهديم عثماني
السور الذي نقف عليه، يبدأ من الأعظمية وينتهي بإعدادية العقيدة في الباب الشرقي، هدمه الناس وبنوا بطابوقه محالَّ، عمليات التهديم بدأت مع الولاة العثمانيين. تخسف في سطح السور يدل على فجوة في الأسفل، المجسات الحرارية كفيلة بالكشف عن أسرارها.
واجهة القلعة بالغة الفخامة، خط عليها «ولا زالت دعوتهم الهادية الى الدين قواماً وللالام نظاماً ولدولته القاهرة سكينة وللأمة عصامة ومنزلة للسلام بأشرف أنوار السعد» قرأناها كالدعاء نازلين من واجهة القلعة الى خراسان نسير بمحاذاة مقبرة الخط السريع يشج أقدامنا الشوك، لمحنا مجاري حديثة شقت تجاوزاً على أثرية المكان، مسارب ماء يبدأ بموازاتها السور، مجوف لكنه مرصوص بقوة تبديه مكتنزاً، متين المظهر يرهب الأعداء ويعيد الثقة للأصدقاء.
كابينات بالمفهوم المعاصر وأبراج ومراصد، لتبادل نوبات الحراسة وتسليم الواجبات، بين الجنود، انتصبت في أعلى السياج تطل على الخارج، كما لو أنها «حجابات – إنذار مبكر» الذي يسميه العرب: رائداً. كلمة الوسـطاني.. بغداديَّة حديثة، لكنها معتمدة رسمياً الآن؛ فنظيرها الفصيح: «الأوسط» وسواء أكان وسطانياً أم أوسط، فهو سحر سياحي مهمل.. لم نستثمـــــــــره.. لا اقتصــــــــــــــادياً ولا جمالياً.