مثقفون يبحثون عن خارطة طريق لإنقاذ الثقافة العراقيَّة

ريبورتاج 2021/11/14
...

 
  صفاء ذياب
 
منذ بدايات الثقافة العراقية الجديدة مع عشرينيات القرن الماضي بدأت صراعات بين الاتجاهات السائدة في ذلك الوقت، لا سيما بعد محاولة الثقافة العراقية الدخول في عصر التنوير الذي بدأ في الشام ولبنان ثمَّ مصر في منتصف القرن التاسع عشر، غير أنَّ ثقافتنا العراقية لم تتأثر بهذا التنوير إلا في أواخر سنواته لأسباب كثيرة، منها سياسية بسبب سيطرة الدولة العثمانية حينها، وأسباب اقتصادية بسبب الفقر الذي كان يعيش العراقيون تحت وطأته، وأيضاً لأسباب دينية لمحاولة المؤسسة الدينية وقتها رفض أي تجديد في الخطاب الديني والاجتماعي.
هذه الأسباب مجتمعة لم تترك مجالاً للمثقفين العراقيين في محاولات التجديد والتنوير التي كانت في أوجّها في مصر، غير أنَّ تأسيس الدولة العراقية أدخل الثقافة مرحلة صراع جديدة، صراع يتمثّل بعدة أقطاب، كان يقف على رأسها الشاعران جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، اللذان مثلا قطبين مهمين، أحدهما يدعو إلى العلم والتمسّك به، والآخر يدعو إلى التحولات الاجتماعية والتحرر ونهضة الأمة العراقية ضد الظلم.
على الجانب الآخر يقف التقليديون الذين يرفضون أي تجديد في الخطاب الثقافي والديني، وهو ما أدّى إلى صراعات كثيرة استمرّت حتى أواخر أربعينيات القرن الماضي مع بروز الشاعرين نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب، وهما يسعيان لتجديد شكل القصيدة العربية وتغيير مسارها نحو الحداثة، إلا أنَّ عقد الخمسينيات من القرن الماضي رسّخ هذا التجديد حتى سرى في مختلف البلدان العربية، ربّما كان هذا التجديد سبباً لصراعات مغايرة أدخلت الثقافة العراقية في قلب الأيديولوجيا مع ظهور التيارات السياسية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي المتمثلة بتياري البعث والحزب الشيوعي، ما أدى في النهاية إلى اسقاط الأيديولوجيا الشيوعية سياسياً، على الرغم من سريانها ثقافياً واجتماعياً.
إلا أنَّ التحوّل الحقيقي في روح الثقافة العراقية كان في العام 2003، مع انهيار الحكومة السابقة بسياساتها وايديولوجياتها ومثقفيها، وبروز أكثر من طرف للصراع، في محاولة للسيطرة على الثقافة العراقية، هذا الصراع جعل أغلب مثقفينا يرون أنَّ هذه الثقافة وصلت حدّ الهاوية، لتبعية الكثير من هؤلاء المثقفين لأحزاب لا تعبأ بالثقافة ولا تروّج لها، لهذا انعزل الكثير من المثقفين، وصمت آخر، وهاجر ثالث، وظهرت جماعات ثقافية تدعو لإنقاذ ثقافتنا من هذا الانهيار.
فهل نحن بحاجة فعلاً لخارطة طريق ثقافية؟ وما خطواتها لإنقاذ ثقافتنا العراقية؟.
 
إنقاذ الإنسان
يشير الأستاذ الدكتور طه جزاع إلى أننا بتفكيك هذا السؤال نتوصل إلى فرضية مفادها أن الثقافة العراقية تمر بمرحلة ضياع وتشتت تجعلها بحاجة إلى عملية إنقاذ، وربَّما تعكس هذه الفرضية رؤية متشائمة نوعاً ما، لكنها لا تحيد كثيراً عن واقع حال ثقافتنا الراهنة. والحقيقة أنَّه من الصعوبة بمكان وضع خريطة طريق لعملية تقوم أصلاً على الإبداع الحر الذي لا يتقيّد بتعليمات أو أوامر أو توجيهات ايديولوجية بمختلف أشكالها وأنماطها، لكنّها يمكن أن تسير وفق رؤى إنسانية منفتحة على مشكلات الإنسان العراقي وتتفهّم معاناته وهواجسه وهمومه في مجتمع تتقاذفه مختلف أنواع الأخطار الداخلية والخارجية وتهدد نسيجه ووحدته وحاضره ومستقبله، وانطلاقاً من ذلك فإنَّ خريطة طريق إنقاذ الثقافة العراقية هي ذاتها خريطة إنقاذ الإنسان العراقي، ولابدَّ لها أن تتضمّن تأكيد الهوية العراقية في الثقافة التي هي أبرز التجليات الإبداعية لتلك الهوية، ويتم ذلك بتحفيز الذاكرة التاريخية الجمعية في محطاتها المشرقة، والارتقاء بالذوق العام، والسير أمام الجمهور لا خلفه، والنظر إلى الحياة نظرة شمولية بعيدة عن التقوقع والانعزال والتطرف والتعصب، والفهم العميق للمعاناة الفردية بمختلف صورها، وبالتالي بلورة حركة ثقافية عراقية واضحة المعالم غير منقطعة عن جذورها الحضارية، في الفكر والعلوم والآداب والفنون، وغير متكوّرة على نفسها، لكي تتمكّن من نقل رسالتها إلى العالم والمحيطين العربي والإسلامي، باعتبارها رسالة عراقية خالصة نابعة من ثقافة عريقة لها إنجازاتها المشهودة على مر التاريخ.
 
حروب اقتصادية
ويجد الدكتور عارف الساعدي أنَّ خريطة الطريق الثقافية لا تنفصل عن الخارطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلا قيمة للشأن الثقافي إذا كنت بلا اقتصاد حقيقي، وكذلك بلا حرّية سياسية، وكأنَّ المسألة عبارة عن عربة فيها عجلات تدور معاً فتتحرّك العجلة، ولكن مع هذا بإمكان الثقافة أن تكون عاملاً رئيساً في تحفيز بقية الأطراف، السياسية وغيرها، هذا إذا حظيت برجالات يخططون لها بشكل جيّد بعيداً عن المحاباة أو الثقافة المستهلكة اليومية التي تفقد قيمتها بعد انتهائها مباشرة، خريطة الطريق الثقافية تبدأ من البنية التحتية الثقافية، فالمدينة التي يعصف بها الإرهاب مثلاً يكون بناء مسرح وغاليري وفرق للقراءة جزءاً من علاج ومحاربة الإرهاب، فضلاً عن أنَّ أي عمل ثقافي بدون بنى تحتية سيكون بسيطاً، فالمدن الخالية من المسارح هي مدن فقيرة لا قيمة لها، والمدن التي تتناقص مدارسها وجامعاتها وتكثر مولاتها هي مدن قاحلة، والمدن التي تتحوّل مكتباتها العامة إلى مقرات للأحزاب هي مدن لن تعيش طويلاً.
 
شكوى الماضي
وبحسب الدكتور حسن النخيلة، يؤكد ماثيو آرنولد أن الثقافة هي السعي وراء ذات انسانية فاضلة وكمال كلّي شمولي، ومندفعة بشغف المعرفة الخالصة، مضيفاً: الحقيقة أنَّ الثقافة في مشروع الفن عموماً، والمسرح خصوصاً، تعني بحثاً جادّاً عن حلول لإشكاليات عظيمة في الحياة، ولن يتسنى للفن أداء مهمته هذه من دون البحث والاجتهاد ومغادرة ثيماته القديمة وأساليبه المُكرّرة، وتعني قبل الشروع بذلك أنْ نتحرّر من ثقل الماضي في ايديولوجياته التي باتت تخنق فضاءنا الإنساني حتى صيّرتنا فئات قليلة معزولة هزيلة، ولم نعد ندرك معنى الحياة بقدر هيمنة تلك العوالم المتقاطعة التي لا تفسح للثقافة- بعدّها تسامحاً وحواراً وتقدّماً- أن تأخذ مداها في صناعة حياة جديدة ومجتمع اكثر تطوّراً يكون الإنسان ورفعته مشروعه الأمثل، ومغادرة الماضي وإرهاصاته وضغائنه، والابتعاد عن الشكوى وإبدال ذلك في البحث عن الحلول الناجعة، ورسم خريطة طريق آخر لا نعود فيه مطلقاً إلى الاجترار والعويل الذي صار سارياً على خشبات مسارحنا، ونحن نكرر جرحنا من دون انقطاع، علينا البحث عن إنسانيتنا لأنّها أكبر من أن تندثر تحت ركام زمن لم تكن لنا يد في صناعته.
 
التعليم قبل كل شيء
من جانبه يؤكد الناقد أسامة غانم أننا بالفعل بحاجة ملحّة لخريطة طريق ثقافية، لأن ثقافتنا في أزمة حقيقية، ومن أحد مظاهرها عدم استطاعة المثقف العراقي التأثير ولو في المستوى الأدنى على الذين أصبحوا في السلطة السياسية، بمعنى أنَّ هنالك عمقاً كبيراً في سوء الفهم فيما بينهما، وتمسّك السياسي بالنظرة الدونية للمثقف والثقافة، والاستخفاف بهما، بالإضافة إلى أن هذا السياسي وكذلك عامة الشعب ما زالوا يتعاملون مع الثقافة وملحقاتها حتى الآن على أنَّها شيء ليس ضروريا بتاتا وليست له اهمية في حياتنا اليومية، رغم أن الكثير من المصطلحات تلحق بمفهوم الثقافة مثل: الحضارة، المدنية، التقدم.
لذا علينا اتخاذ خطوات فورية مستعجلة لمعالجة هذه الازمة المستعصية بحسب غانم: باختصار شديد علينا أن نعمل على محو الأمية الثقافية وتنمية الوعي لدى ضعيفي التعليم في مرتبة متقدّمة على أمية القراءة والكتابة، وهذا سيقودنا إلى الإعداد لثورة ثقافية بالتدريج، عند القيام بـ (رعاية الفنون والآداب والترويج لها، وإنشاء المسارح الصغيرة والكبيرة، ودعم الإنتاج السينمائي، وإنشاء  قصور ثقافية في جميع المحافظات).
 
بين الثقافي والسياسي
ويبين الدكتور سراج محمد أنه قبل الحديث عن خريطة طريق للثقافة العراقية تعيد لنا شيئاً من العافية، ينبغي في البدء عزل المثقف عن السلطة والايديولوجيا، أو الشروع بزجه داخل السلطة؛ شريطة إصلاحها، وعلى الأخيرة أن تؤسس لتأثيث ثقافة تستوعب ذلك التغيير، بدءاً بصناعة الإنسان وتهيئته وليس انتهاءً بالبنى التحتية المناسبة، إنَّ أزمة الثقافة العراقية غير مرتهنة بعطب النظام وحسب، بل بقابليات المنظومة المجتمعية على الهدوء وتقبل الآخر والتحاور وتعطيل شيء من التابوات، حتى التثبّت من صحتها وصلاحيتها، وهي ليست دعوة للتصالح مع النفس، بقدر ما هو نوع من التجريب، يجب أن تتمتع به الذات المخاطبة بالتعقّل، على أنَّ الأزمة الراهنة تشي بالنموذجين معاً، نرجسية المثقف وميوله من جهة، ويمينية الإنسان المتورّط بمحيطه من جهة أخرى، إصلاح الثقافة ليس زراً متاحا في جهة ما على الحائط، لنتمكن خلاله من إدارة عملية التشغيل والإطفاء، إنها عملية معقّدة، تحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت واحترام النفس والحياة، والتاريخ يضج بتلك الدروس الملهمة، والعاقل من اعتبر.
 
مناخات ثقافية
أما المسرحي حيدر عبد الله الشطري فيفصح بأن المؤسسات الثقافية الرصينة في كل الدول تسعى إلى أن ترسم ستراتيجية واضحة لتفعيل دور الثقافة ورسم ملامحها المؤثرة في المجتمع وكذلك لتكريس دورها الفعّال في الإعلان عن جمالياتها وخطاباتها الفكرية، لذلك من المهم أن تكون هناك خريطة طريق ثقافية نعمل على رسم أبعادها وتحديد أدوارها في التأكيد على وظائفها وتحمّل مسؤولياتها التوعوية في بث رسائلها الثقافية والفكرية، ونحن في العراق وبعد أن تعرض العالم أجمع الى تداعيات وباء كورونا أصبحنا امام تحدٍ كبير في الاشتغال على تأسيس خريطة طريق ثقافية تتحمّل المؤسسات الثقافية التخطيط والتنظيم لها بما يضمن تحقيق نتائـــــج أفضل في نهضة ثقافية ناجزة وازدهار فكري لا بد منه.
ويضيف: وليس من الصعوبة بشيء في أن ننجز ذلك من خلال خلق المناخات الثقافية الملائمة لتجذيرها ونموّها عندما تتضافر فيها الجهود الحكومية مع الدور الذي تضطلع به هذه المؤسسات بما يعكس الصورة الحقيقية للثقافة العراقية الرائدة والانفتاح على المحيط الخارجي والاطلاع على أحدث المنجزات في هذا المجال الحيوي ومحاولة نشر المنجز الثقافي العراقي المستمر.
 
ثورة ثقافية
في حين يقول الباحث علي كريم السيد أن {الثقافة أو الحضارة بمعناها الإنساني الأوسع، هي ذلك الكل المركّب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع}، والثقافة أيضاً هي رأسمال البلدان، ومصدر هويتها وتميزها عن بقية المجتمعات. 
مبيناً أنه من المؤكد هناك حاجة لخريطة ثقافية، بل حاجة إلى ثورة ثقافية ضد الخرافة والجهل والوعي الزائف، خريطة تبدأ مع نشر المكتبات وتسهيل الوصول إلى الكتاب، مع فتح المنتديات الثقافية والفكرية وتكثيف الندوات والمؤتمرات والمحاضرات الفكرية، واستقطاب أهم مفكّري وباحثي العالم لإحداث حالة التثاقف والاحتكاك الحضاري، وبحاجة أيضاً إلى استعادة تراثنا الوطني والسومري والبابلي وجعله حاضراً بين الطلبة الصغار ليعرفوا تاريخهم ويفتخروا بهويتهم، إن الثقافة العراقية في خطر إذا لم تحظ باهتمام ودعم وحماية المثقف والمفكر و صيانة حرية الرأي والتعبير، ومن أهم خطوات تحرير الثقافة،  تحرير وزارة الثقافة من المحاصصة الحزبية، وتشكيل مجلس أعلى للآثار يعيد هيبة الآثار العراقية ويجعلها قبلة للسائحين والعراقيين.