الحضرة القادريَّة تبتهج بولادة الباز وقطب الصوفية .. الكيلاني في ذكراه الإيمانيَّة الخالدة

ريبورتاج 2021/11/15
...

 بغداد: محمد اسماعيل
 تصوير: نهاد العزاوي
ولد أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله.. قطب بغداد الذي تنسب إليه الطريقة القادرية في التصوف. ولد الشيخ عبد القادر الكيلاني، سنة 470 هـ 1077 م، حيث حل مولده أمس الاثنين 15 تشرين الثاني الحالي. تبدأ الحضرة القادرية المطهرة من الشارع المؤدي الى ساحة الخلاني، امتداداً في عمق الصدرية.. بغداد، تبدأ من باب الوفود ذي القاطع الحديدي المنفصل عن السياج التالي عليه، مرصوصاً من طابوق مزخرف بارتفاع سبعة أمتار، تطل عبره ثلاث قباب منبثقة من عمق الضريح الذي لم ندخله بعد... نخيل وتحيات الشرطة مرحبين بضيوف الشيخ، تبعث التفاؤل وتزيح الهموم.
«لُقِّب بالباز» قال الشيخ عامر الكيلاني، مواصلاً: «لأنه أكبر نسر في الصوفيَّة».
من نافذة الاستعلامات.. قبل دخولنا.. لفحتنا رائحة الحناء زكية لم يمحُها تقادم الزمن.. بحثت عنها فوجدت مراداً تحقق لامرأة ما، حنَّت الجدار واختفت!.
النفاذ من الاستعلامات يضع الزائر قبالة لافتة كبيرة: «إدخلوها بسلامٍ آمنين» من اليسار، تناظرها يميناً: «أستغفر الله» وكأنَّ أولياء الله محجٌّ للتطهّر المطلق.
قواطع قوسية، ونوافذ وجدران بغدادية من طراز الـ »جفقيم« توزعت بين نحت بارز ومستوٍ، بينما أعمدة البوابة تنوعت زينتها آخذة أشكالاً هندسية تبهج الناظرين، كأن مجسّاً روحيّاً ينفذ الى سويداء القلب يسعده؛ فتتوهّج العقول.
 
«يلماز»
قطعنا ممراً انتهى بنا الى الغرفة قبل الأخيرة، حيث إمام وخطيب الحضرة القادرية يلماز يوسف صالح.. قال الشيخ يلماز: «أول من وضع دعائم الحضرة قاضي بغداد ابو سعيد المخرمي؛ أسسها لتربية «المرداء».. جمع مريد، متسلّماً التدريس فيها بالطريقة الصدقية»، مؤكداً: «التوسعة الأولى التي شهدتها الحضرة، إعمار العام 527 من قبل تجار الرصافة، وتوالت التوسعات».
أضاف: «قَدِمَ إليها الشيخ عبد القادر الكيلاني، مدرّساً لعلوم الفقه والحديث والنحو، ودفن في حجرته التي يدرّس فيها سنة 561 هـ»، لافتاً: «الآن أنا مسؤول عن الدراسات والنحو والفقه والمنطق والقراءات وعلم المصطلح والإرشاد الذي اختص به الكيلانيون، وعلوم الآلة التي تبصّر المسلم بأحكام القرآن، وندرس الحديث سماعاً.. أي تمكين الطالب من اجتراح معاني فهمه لما شرَّعه الرسول.. صلى الله عليه وآله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى».
سألناه عن استبدال «مريدين» بمرداء؟ فأجاب: «العرب تفضل جمع التكسير، ولا تلجأ الى جمع المذكر السالم إلا إضطراراً»!.
وصف: «تتوزع الحضرة بين مرفقين رئيسين.. الضريح الشريف والمكتبة القادرية التي أسسها عبد الرحمن النقيب، سنة 1920 يلتحق بهما مطبخ الخيرات الموجود في حياة الشيخ، يأكل منه العلماء والفقراء.. صباحا وظهرا.. وفي المناسبات عشاءً أيضاً، ولم يتوقف لا في حرب ولا كارثة ولا أثناء الحصار – العقوبات الدولية»، مفيداً: «لقب بالباز لسرعته في قضاء حوائج الناس والانقضاض على العلم وإلتهامه».
نوَّه الشيخ يلماز: «سميت المنطقة باسمه.. باب الشيخ، بوصفه معلماً جامعاً للأهالي.. من كل الطوائف والأديان والقوميات.. لا فئوية في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني؛ يزوره المسلم وغير المسلم، من دون تحفّظ، فشعار الرسول: «الموآخاة» وحكمة الإمام علي.. عليه السلام «أما أخوك في الدين او نظيرك في الإنسانية» وهو الشعار الذي تبنّاه المتصوفة»، مواصلاً: «وضع الرسول التصوف لدى أناس ملهمين منهم الإمام علي، ومنه انطلقت فروع التدوين، ونما الى أن جاءت مرحلة منع التصوف التي صُلِبَ فيها الحلاج وآخرون، الى أن جاء الشيخ عبد القادر ونشر التصوف، الذي يبدأ بالإمام علي وينتهي بالشيخ عبد القادر الكيلاني.. سُمِّي الإمام بـ : بئر الطرائق».
تابع:«نسعى الى نشر التوعية الدينية من خلال محاضرات تعقب صلاتي العصر والمغرب.. لا نكفّر من يخالفنا الرأي، لدينا في المناسبات حلقات ذكر تستقبل أي زائر.. فالتصوف نابع من الامام علي.. مرجعنا إليهم ومرجعهم إلينا، والشيخ حسني الأب حسيني الأم، قيل إن أصله من كيلان الإيرانيَّة، لكن الصحيح هو من قرية جيلان في ديالى.. تتلمذ على يد أبي حامد الدبّاس وأبي سعيد المخرمي، وتولى المحاضرة في المدرسة النظامية، بعد ذهاب أبي حامد الغزالي الى طوس معتزلاً الناس»، مشيرا الى ان: «كراماته تظهر للعالم، فقد أنقذ قافلة كانت تتسلّب في الطريق من بلاد فارس الى بغداد، ورأينا بأعيننا مرضى وممسوسين يتعافون وأناسا تحقق لهم مرادهم، عندما هاجس من الشيخ يقول: فليردد «يا لطيف» مئة وتسعاً وعشرين مرة»، مشيرا الى شخص يزور مضنوكاً.. أخبرته ففعل وعاد بعد أيام وقد حلت مشكلته وكوفئ بدل العقاب، وعندما كنت طفلاً أصبت بخلل عصبي في وجهي، جعل فمي ينحرف؛ فطاف الشيخ على أمي: أن زوريه جدي موسى الكاظم، وشفيت بعد الزيارة».
 
«تكا»
شهدت الحضرة إعماراً أخيراً من قبل شركة «تكا» التركية بجهود متولييها خالد وعبد الرحمن الكيلاني على نفقة الحكومة التركية بالشراكة مع الحضرة.
ودعنا الشيخ يلماز عائدين الى رحاب الصحن الشريف، قاطعين الممر ذي الواجهات الخشبية التسع.. يتشكل الممر من جدارين.. يساراً طابوق قديم ويمينا مرمر حديث، الخارج منه يجد البوابة الرئيسة على يساره في باحة تتوسطها منارة تحمل ساعة بارتفاع أربعين مترا، تنتصب على قاعدة مرمرية تقطعها بالكونات تقترب من رأس العمارة، تناظرها في أقصى الصحن منارة لرفع الأذان فقط، تحيطها بوابات أجنحة للمبيت والإقامة، وقاعات للدرس والصلاة.
يتألف جدار مصلى النساء من واجهة مرمرية تصعد الى طابوق جفقيم ومعه يصعد سياج بارز.. إتّكأتُ على شباك، فنفذ الى روحي مسك شذي، وترامى أمامي رخامٌ بلّطت به الساحة المتوزعة بين قسمين.. واطئ وعالٍ، تنتهي بثمانية وعشرين إيوانا تحيط الزائرين 
من ثلاثة جوانب وتحتها نفق للخروج والدخول.. والأطفال يلهون ببراءة.
على يسار الضريح مرقدا نجلي الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهما صالح وعبد الجبار.
فوق البوابة منارة بارتفاع ثلاثين متراً تهدي المريدين، وللمكتبة القدرية قصتها.
دخلنا الضريح فغمرت رائحة المسك أنفي.. وآخر ما رأيت في الصحن رجلا يضع قطرة لعين آخر، في قاعة ترفعها أربعة أعمدة.. الساعة تشير الى الثانية ظهرا واربعة أعمدة متينة متراصة بحجم كبير.. أجانب من دول إسلامية وغير إسلامية يتأملونني مستغربين.. أحدهم يقرأ القرآن.. جيئة وذهابا.
تنتشر في الجناح مكتبات مشرعة لمن يشاء القراءة تحت اثنتي عشرة ثرية تضيء المكان.. تنزل الثريات بسلاسل من السقف محاطة بزخارف نباتية مدورة.
وقفنا عند الباب نؤدي مراسيم الزيارة وقد أزف العصر، إذ نادى المؤذن: «الله أكبر الله أكبر» فتجمع المصلون خلف الإمام.
ومحراب الصلاة يشير الى القبلة.. وفيه حاملة قرآن عربية.. متينة صنعت من حديد.. على امتداد النظر فيها أناس جالسون.
نص تلاوة الزيارة محفور بحروف سود على مرمر أبيض في إطار من مرايا متعاكسة بهندسة ساحرة، تنفذ أشعتها من حول الزائرين وهم يتلون: بسم الله والصلاة والسلام عليك يا غوث الثقلين.. السلام عليك يا ولي الله.. السلام عليك يا من خدم العلم في سبيل الله.. السلام عليك يا سيدي الشيخ عبد القادر الكيلاني وعلى من جاورك من أهل المقابر.. يا صاحب الكرامة جئناك زائرين وعلى بابك واقفين، أودعنا عندك شهادة لا إله إلا الله ومحمداً رسول الله.
يحيط بباب الضريح شباكان.. اقتربت من الباب فوجدته برونزيا ثقيل السواد، وعليه ثلاث رقاع بالخط الكوفي تعذرت عليَّ قراءتها سوى الصغر «إدخلوها بأمان سالمين..»، ينتهي الباب بشريط أسود 
مرمري، تنحني فوقه مرايا قوسية، حنواً.
مرايا مضلعة تكفيها شعلة عود ثقاب لإضاءة المكان كاملا.. بعد الصلاة فتحت بوابة البرونز الاسود، فتدافع الزوار نحو قبره بانسيابية لا زحام فيها.
قبلت عضادتي الباب داخلا ألهج بالدعاء لأسرتي... سمعتُ نحيبا مفجوعا يتناهى الى أذني من مكان قريب.. مجهول المصدر.. وجدت القبر محاطاً بشبابيك من زرد الفضة.