كيف يمكن أن نعيد بناء وعينا العراقي ثقافياً واجتماعياً؟

ريبورتاج 2021/12/05
...

   صفاء ذياب
منذ انهيار النظام العراقي السابق، بدأ الحديث عن انهيار القيم التي كان المجتمع العراقي يرتكز عليها، في محاولة لفهم التحولات التي طرأت على هذا المجتمع، لا سيما الوعي الذي بدأ بالتغيّر منذ ستينيات القرن الماضي وصولا إلى العام 2003، ولهذا الانهيار أسباب عدة، ربما من أهمها السياسات الخاطئة - على حد تعبير المراقبين- بعد العام 2003، فضلا عن الاقتصاد العراقي الذي دفع العديد من الاسر على إجبار أبنائها على ترك المدرسة واللجوء للعمل من أجل كسب لقمة العيش، وفي الوقت نفسه اندثار المكتبات المدرسية التي كانت أحد أسباب صناعة الطبقة المثقفة في العراق، وفقداننا للمكتبات المركزية في المدن، حتى وإن بقي بعضها، لكنها لم تكن فاعلة بالشكل المرجو منها.
لهذا يرى الكثير من المثقفين والمراقبين أن الانهيار الذي حصل في الوعي المجتمعي على مدى أكثر من 40 عاماً، بحاجة لإعادة بناء في مدة لا تقل عن مراحل الانهيار، لكن بخطوات مدروسة وتنفذ بحرفية، فما الذي علينا فعله؟.
 
نقاط ارتكاز
يوضح الدكتور مجيد حميد البدري أن الثقافة مجموعة متكاملة من القيم من ضمنها المعرفة والفن والتعليم، وليست أشياء مادية، بل معنوية ونفسية، لذا فهي تتأثر بكثير من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنّها على صلة مباشرة بالمجتمع كونها تخاطب العقل.
ويقترح البدري من أجل المحاولة باعادة الوعي المجتمعي إلى وضعه الطبيعي، عدّة نقاط، منها: إعادة مفهوم الدولة وبناء نموذج مختلف لرعاية المجتمع وتثبيت مفهوم المواطنة، واعطاء دور لمنظمات المجتمع المدني والحكومات المحلية لرعاية الإنسان في مناطقها، وتحريك أعمدة الثقافة بعد أن يؤمن المواطن بثقافة البيئة التي يعيش فيها: المنطقة، الآثار، المراكز الثقافية، الفن، والتواصل مع الآخر، واشراك المواطن في اتخاذ القرارات التي تمسُّ حياته، ثقافياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، وتغليب ثقافة التسامح والسلم الأهلي عند المواطن كفرد وكمجتمع من خلال التواصل المستمر ووضع برامج تحفيز ثقافة الثقة بالدولة، والتركيز على أهمية التعليم النوعي ومعالجة حالات الانكسار والتراجع في مستويات التعليم، وعرض تجارب دول مرّت بأزمات تشبه أزماتنا وتجاوزتها لفهم الخلل الكامن في هذا التخبط.
 
تشظي الهوية
يبيّن الدكتور نصير الكعبي، أن مركّب الوعي الاجتماعي ومديات قياسه عراقياً خلال الأربعة عقود المنصرمة قد لا يخرج بالإجمال من حيث أدوات استيعابه وتوصيفه وتشخيص كوامن تراجعه أو تقدّمه من ثلاثية السياق الحاكمة لمعظم الفعاليات المتنوعة وهي (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي)، وإذا كان العنصر الأول هو الأكثر تأثيراً من العناصر الأخرى بفعل التطورات والتحولات الراديكالية خلال المدّة المنصرمة، وإذا كان العام 2003 من أبرز تلك الانعطافات، فإنه لا يزال حتى الآن في طور الانتقال غير المكتمل على الرغم من صبغة الانتقال من النظام الشمولي إلى النظام شبه الديمقراطي، غير أنَّ بقاء فلسفة الاقتصاد الريعي فاعلة ومن مخرجاته الثقافية أن يعوّل على الدولة في صناعة وعي الفرد والمجتمع بالطريقة التي تصوغها بوصفها ممسكة لوسائل الإنتاج المادّي والمعرفي ومحتكرة له، وبعيداً عن نكهة التشاؤم، فإنَّ وعياً مجتمعياً فاعلاً في محيطه الذاتي والجماعي لم يتحقّق ما لم تتوفّر فيه مجموعة شروط واقعية من قبيل مواجهة التشظّي الهوياتي العميق، وتعديل مسار مناهج التعليم بمختلف مراحله وإحكام مباني الدولة الحديثة وعناصرها كما هي تجارب الدول الصاعدة.
 
إشكالية الدولة
ويرى الدكتور خالد خليل هويدي، أنه بحسب كارل بوبر فإنَّ الوعي بالمشكلة وإدراك حدودها لهما أهمية كبيرة في تيسير الوصول إلى حلٍ مقنع لها؛ عليه يعتقد أنَّه لا يمكن الإجابة عن السؤال، ذي الطبيعة الإشكالية من دون التذكير بأهمية الدولة، والقانون الذي هو أحد أهم تجلياتها، فالدولة الحقيقية القويّة التي تعتمد العدالة، وتؤسّس لقانون يحتكم ويخضع إليه الجميع ستفرز بالتأكيد مؤسسات وأفراداً أسوياء، إذا كان الإنسان محور اهتمام الدولة، والغاية التي تشتغل عليها، فستكون مهمة استعادة الوعي، وتمثّل الثقافة بين أفراده ليست بالصعبة.
ويضيف هويدي: عندما تتمكّن الدولة من ترسيخ الشعور لدى المواطن بأهميته وقيمته العليا سيكون الإنسان حينها واعياً بوجوده ومن ثم بقيمة البلد الذي يحتويه، كما ستفرز الدولة القويّة مؤسّسات مجتمعية قويّة وجادّة، وستؤدّي جامعاتها ومؤسّساتها الثقافية دورها بصورة تتناغم مع جدية الدولة، فالوعي والثقافة الجادّة نتاج الجامعة الجادّة والمؤسسة الجادّة والثقافة الجادّة، وكلُّ هذه الأمور نتاج دولة جادّة، والعكس صحيح، فعندما تكون الجامعة والمؤسسات البحثية والثقافية ودور السينما والمسرح بنية مكانية تدميرية ستتجاوز أسوارها وحدودها، وستتمكن بلا شك من فرض هيمنتها الثقافية، وتصدير قيمها التنويرية إلى المجتمع، أما إذا كان العكس بأن كانت تلك المؤسسات بنية صيانية غير مؤثرة، تحاول الحفاظ على السائد والمألوف، فستكون حينها عرضة لموجات من التجهيل وغياب وتغييب الوعي وانتشار ثقافة الاستسهال والمحافظة، أسّ المشكل وأسّ الحل يكمن بالدولة، فبها وبحضور اشتراطات وجودها يمكن للوعي والثقافة أن يطرزا وجودنا الإنساني.
التعليم والمجتمع
الباحث في التراث العراقي ماجد العامري، يتحدث عن الوضع الشائك الذي يتداخل فيه السياسي بالديني، والجهوي بالعشائري، وتلعب فيه الرواسب والأشباح دوراً كبيراً! لأنّنا واقعياً لم نصل بعد إلى التمييز الدقيق بين ممارسة الحكم وإدارة الشؤون العامة داخل المؤسسات التي تؤطرها الدولة بصفتها الراعي الرسمي والوحيد لتسيير الشأن العام والحفاظ على النظام.
والخلاصة بحسب العامري، ان الوضع يستدعي خلخلة الجاهز سواء تعلّق الأمر بالتعليم الأساسي أو بالدراسة الجامعية، كما يستدعي تطوير المناهج النظرية ودعوة الباحثين والأكاديميين إلى تفاعل المقاربات المختلفة في شكل مجموعات بحث أو خلق مؤسسة مختصة بذلك نستعيد من خلالها ذاكرتنا الثقافية والمعرفية والذهاب بعيداً في الاشتغال حول الأدب والثقافة الشعبية والصورة والمتخيّل القديم بمختلف أنساقه وألوانه خاصة، بهذا المعنى يظل مشروع الثقافة والتعليم العراقي مفتوحاً يكشف عن ذاته من جديد ويصوغها وفق ستراتيجية عقلانية جديدة تؤسس منطقها في ضوء مكتسبات التحليل اللساني والأنثروبولوجي والنفسي من دون أن ننسى التحليل السيميائي بالمعنى الثقافي، أما الجامعات العراقية فعليها أن تطلّق جمودها إن لم أقل تفاهتها وتعترف بباحثيها الحقيقيين وتتوقف عن إنتاج الأشباح والنظائر، إن في هذا دعوة إلى استعادة الإنسان العراقي لذاته المسلوبة وتوريطه في التحوّل العلمي العالمي الجديد المفروض علينا من دون مزايدة سياسية أو ايديولوجية أو {قومجية}.
 
استعلاء النخب
وبحسب الدكتور نصير جابر الكعبي، فإنه منذ العام 1963 وحتى 2003  رسخت سياسات الطغيان القمعية عامدة ومتعمّدة نسق الجهل والتجهيل ونشرته بأدواتها وإعلامها ورموزها وجعلته جزءاً لا يتجزأ من منهجها في التعليم والثقافة والأدلجة وفي كلّ جزئيات الحياة ومفاصلها لكونه المسوّغ الأول والأهم لبقائها في السلطة لأطول فترة ممكنة، وكانت مشاريع التنوير والوعي ذاتية ونخبوية جداً ومحدودة، وغالباً ما تنتهي بأصحابها بالموت أو السجن أو المنافي، لذا ظلّ الوعي المجتمعي رهن هذه (السرنمة) فظهرت الكثير من الأجيال المغيّبة عن الوعي التي تردّد القوالب الجاهزة التي ورثتها من دون أدنى ابتكار أو نظر أو رؤية في مشكلات العصر ولحظته الراهنة التي تعيشها وتواجهها بما فيها من تحديات وصخب واختلاف.
فكيف ننسج من جديد وعياً مجتمعياً ثاقباً تتشارك فيه النخبة والعوام الرأي من دون عقد الاستعلاء والفوقية، الحقيقة أنَّ أي حديث عن صنع وتدبيج وتشكيل هذا الوعي لا يمكن أن يغفل دور المثقف بوصفه المحور الأول لخلق هذا الوعي، المثقف الفعّال الذي لا يشغله التنظير بقدر ما يشغله الحراك المحتدم في الشارع ومدى قدرته على تحليله وإعادة إنتاجه مقولات ثقافية تردم الهوّة وتعيد تجسير العلاقة المهمة بين رأي النخبة والعوام.
 
تحولات الوعي
ويؤكد الكاتب عمار إبراهيم عزت أنَّ عوامل عديدة تتدخّل في صناعة الوعي وترسيخه في مجتمع ما، منها دينية وايديولوجية، واجتماعية ترسّخ مجموعة من القيم والعادات والتقاليد، كما تحيط الفرد بمنظومة مغلقة على ذاتها غير قابلة للتفتت أو الانفتاح، وبالتالي فإنَّ الوعي الفردي والجماعي لا يكاد يفلت من هيمنة هذه الخطابات المغلقة.
ويضيف عزت: انَّ الجهود الفردية التي تبذلها النخب الواعية غير قادرة بمفردها على اختراق الجدار الصلب للوعي الفئوي الذي رسخته السياسات الخاطئة، وكان من نتائجها نكوص المجتمع وتقهقره ليتحول من مجتمع مدني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى مجتمع اثني قبلي يعتاش ضمن مسلّمات أكل الدهر عليها وشرب، مجتمع محاط بخطوط حمراء وتابوهات يخشى تجاوزها، وعليه فإنَّ واحدة من ضرورات استنهاض الوعي في مجتمع ما هو تحطيم هذه التابوهات ووضعها موضع سؤال وجدل ومحاكمة وصولاً إلى تفتيتها وإعادة بنائها من دون أن يعني ذلك الانقلاب جذرياً على قيم المجتمع وثوابته وإنما من أجل تفكيك وبناء منظومة قيم جديدة بشكل انتقائي لا تراكمي كما يحصل حالياً وأن نستفيد من التجارب العالمية من دون أن تتحوّل هذه التجارب إلى مثال أعلى فلكل بيئة ومجتمع خصوصياته ولعل عقدين من الزمن بعد سقوط الدكتاتورية أثبتت فشل الديمقراطية لأننا استوردناها من دون توفير الأرضية الملائمة لها، وهي حالة تشبه إلى حدٍ ما زراعة نبتة نادرة وقيّمة ومثمرة في بيئة لا تناسبها، الوعي هو حالة فردية وجماعية دينامية ومتجددة منفتحة لا منغلقة، وهي في حوار دائم مع قيم المجتمع الراسخة بغية التغيير وإحلال قيم جديدة بديلاً عن قيم بالية بشكل ناعم خشية الممانعة والتعنت، بما ينسجم ومتطلبات المرحلة ويتفاعل مع التحوّلات التي يشهدها العالم.
 
الوعي المتأخر
ويشير الكاتب علي إبراهيم إلى أنَّه ليس من السهل أن نربط انهيار الوعي المجتمعي قبل أربعة عقود، وقد رأينا وسمعنا عن تحوّلات في المجتمع العراقي في الاقتصاد، والبناء، والعمران بالرغم من مقولة عبد الرحمن الكواكبي (العامة هم قوت المستبد، وقوّته بهم يصول عليهم)، ولكن ما أفرزته حقبة ما بعد التغيير فلا يعدو أن يكون صورة بلا إطار تتقاذفها جدران الحياة؛ وهو أمر مخطط له، أن يتنازل الإنسان عن وعيه وعن حريته مقابل معيشته وحياته التي تدور في المحور  نفسه الذي دارت فيه قبل أربعة عقود، وهذه من خصوصيات الثقافة مجرّدة من الوعي وحتى الدين أصبح في أغلبه تجارة، وقد انسحب على 
السياسة.
الآن تنازلنا عن الثقافة المرتبطة بوعي الإنسان إلى البدائل ومنها: النظرة السطحيّة للحياة واستساغة المرارة والآلام وهذه قد أكلت من وعي وثقافة المجتمع الكثير، مقارنة بالفرق الشاسع بين تطوّر الدول المجاورة، والبعيدة ونظرتها إلى عالم التكنولوجيا في تحديد مستقبل الأجيال ولو بعد ثلاثة عقود، أليس هذا من ثمرات الوعي الملازم للحرية، والمؤثر في المجتمع؟
نحن نحتاج إلى مراجعة ثانية وثالثة للمناهج وحتى الطرق على النصوص التاريخية، والدينية من أجل التقارب وقبول الرأي والرأي الآخر، وعسى أن نتدارك الوعي وإن كان متأخراً من مقولة الكاتب نصري الصايغ (الوعي المتأخر خير من الحماقة المستدامة).