«المولات» تغيب الأسواق المركزيَّة

ريبورتاج 2021/12/06
...

 علي غني 
زودتنا الأسواق المركزية بأحدث الموديلات، وبأسعار تعاونية، وبضاعة بعيدة عن الغش، وتشرف عليها الدولة، نظام تبضع مثالي، وساعات جميلة كنا نسجلها لأنفسنا عند دخولنا وخروجنا من هذه الأسواق التي أصبحت الآن خربة وسكناً للعشوائيات، من دون أن تضع الدولة لمساتها وتعيد الامور لنصابها، باستثمارها بنزاهة ودراسة معمقة، ما الذي أدى لهذا الوضع المأساوي، ومن يقف وراء ذلك، وهل هناك أيادٍ خفية فرضتها (المولات) التي انشئت حديثاً، كل هذه الامور وغيرها قادتنا للدخول في دهاليز الأسواق المركزية التي لا يريد الفقراء لها أن تموت.
 
تحول
بدأت جولتي من السوق المركزي في حي العامل، والذي كنت مراقباً له، كيف هوى شيئاً فشيئاً، واذا صح تعبيري اكثر طابوقة طابوقة، فتحول الى عشوائيات لا يمكن الدخول لها الا بإذن أصحابها، فهذا المواطن (ع) الذي كانت حجته بالسكن بهذا (الصرح) العائد للدولة، بأن النظام السابق حرمه من السكن الملائم، وهو يقول: هذه املاكنا، ونحن ابناء هذا الوطن، وهو حق مشروع لنا، و(شبع) العراق (مولات)، فاتركوا هذه الارض للفقراء من الناس، وتركني وهو يهرول وراء طفلته التي تستعد للذهاب الى المدرسة القريبة من
سكنه.
 
عائدة للدولة
 قصة المواطن (ع) تتكرر في العديد من الأسواق وفي مناطق عديدة، لكننا عرجنا على المؤسسات الاكاديمية، ومنها الجامعة العراقية لنسمع منها أو على الاقل لنجري مقارنة بين الأسواق المركزية و(المولات) التي تكاثرت في كل انحاء البلاد، فتصدى لتساؤلاتنا الاستاذ الدكتور خليل الجبوري، استاذ التمويل الدولي في كلية الادارة والاقتصاد بالجامعة العراقية، اذ عرف السوق في المعنى العام اولا بانه المكان الذي يجتمع فيه البائع والمشتري لغرض بيع وشراء الخدمات بالسعر المحدود، فأردت مقاطعته، فقال أرجوك اسمعني جيداً (وهو يوجه كلامه لي)، في العراق كانت الأسواق المركزية هي السائدة وتعود ملكيتها للدولة، وتقوم بادارتها، وتابعة لوزارة التجارة، وذات ربح محدود، وأحيانا مدعومة من الدولة، أي ذات ربحية اجتماعية وليست اقتصادية، وكانت هذه الأسواق تتعامل مع أفضل المناشئ العالمية، وفيها أفضل المنتجات التي يحتاجها المواطن، وبأسعار تتناسب مع دخله المحدود.
 
تسمية أجنبية
وبحسرة، واصل حديثه: أما اليوم وبعد أن تخلت الدولة عن وظيفتها المركزية تحت ما يسمى بالتحول الى اقتصاد السوق، أصبحت هذه الوظيفة يقوم بها الافراد تحت ما يسمى بتشجيع القطاع الخاص، ولها تسمية اخرى وهي (المولات)، والمول هو تسمية أجنبية وتعني (السوق التجاري)، بمعنى أن التسمية أجنبية، ولكنه سوق تجاري كالسوق المركزي.
لكن أعود وأقول لك والكلام (للبروفيسور خليل)، يختلف الاثنان من ناحية الملكية، فالسوق المركزي تملكه وتديره الدولة في حين المول يمتلكه ويديره الاشخاص، فضلا عن اختلافهما في الاستيراد، فكانت الأسواق المركزية تستورد من أفضل المناشئ العالمية، وبأرخص الاسعار في حين تستورد المولات من أردأ المناشئ وأسوأ الحاجات من السلع، وبأعلى الأسعار لأنهم يبحثون عن أرخص الأسعار من دون الاهتمام بنوعية السلع.
 
الأرخص
وحتى أكون منصفاً معك (وقالها بحسرة): الأسواق المركزية لم يكن هدفها الربح الاقتصادي، وانما توافر السلع الجيدة للمواطنين وبأرخص الأثمان، بينما هدف المولات هو تحقيق اقصى الأرباح عن طريق استيراد السلع الرديئة والرخيصة وبيعها للمواطنين بأسعار عالية، صحيح انهما يتشابهان بالاسم من حيث التسمية، فكلاهما (سوق)، لكنهما يختلفان في الملكية والهدف والايديولوجية ومناشئ الاستيراد، فالأسواق المركزية واضحة العائدية، فهي مملوكة للدولة وتديرها وزارة
التجارة. 
اما المولات فهي غير واضحة العائدية، وتعمل بأسماء مستعارة، وهي في الغالب  ناتجة عن غسيل الأموال، وهي أموال في الأصل تعود للمواطنين وسرقت ثم عادت بأموال خاصة بعد غسلها بإقامة المولات ومشروعات اخرى في الحقيقة مجهولة العائدية!، لتهدف الى الربح السريع الفاحش على حساب حاجات المواطن الاساسية. 
اما بشأن العودة الى الأسواق المركزية، فهذه القضية صعبة جداً لأنها تتناقض مع ايديولوجية الدولة ومع الدستور العراقي الجديد الذي ينص على التحول الى اقتصاد السوق، وعدم هيمنة الدولة على القطاعات الاقتصادية، وتشجيع القطاع
 الخاص.
 
دعم الدولة
وعلى الرغم من التعب الجسدي والنفسي الذي انتابني وأنا أبحث عن سر غياب الأسواق المركزية التي أراها تتهدم امامي، لكنني فضلت أن أطلع على الحقائق كاملة من الشركة ذاتها، فوجدت السيدة زهرة الگيلاني المدير العام للأسواق المركزية، وهي تفدي روحها للشركة، اذ تقول: يا ليتها تعود تلك الأيام الماضية، فتعود معها البضائع ذات المناشئ الرصينة لتنافس المولات التي اوجدت الفوارق الطبقية، بينما كانت الاسرة العراقية تتبضع اجمل السلع وأجودها من الأسواق المركزية المنتشرة في مناطق بغداد وفروع المحافظات.
وتضيف «حقيقة يجب أن يعرفها الناس، إن الأسواق يمكن أن تعود اذا دعمتها الحكومة، كما هو حال المبادرة الحكومية بما يخص البنك المركزي لمساعدة مستثمري القطاع الخاص، وكل انسان صاحب ضمير يدرك، أن التحرك السريع لاستثمار (21) موقعاً - وهذا عدد الأسواق المركزية في عموم العراق - وان كان مع القطاع الخاص سيسهم بخفض نسبة الفقر التي بدأت في الزيادة بحسب بيانات وزارة التخطيط، لاسيما في ظل الجائحة فـ (68 % من المواطنين تحت خط الفقر)، لأن استثمار هذه المواقع سيزيد من نسبة تشغيل الايدي العاملة، وهذا
هدفنا. 
كما ستعود الأسواق الى المنافسة، اذا زودتها الدولة بعد اعادة تأهيلها بالمواد الغذائية وبالسعر المدعوم بعد خفض نسبة الضرائب والجمارك باعتبار الشركة العامة للأسواق المركزية شركة حكومية، وهناك فكرة اخرى، فنحن نستطيع ادخال تعديلات على نظام الأسواق المركزية حالها حال الاتحاد العام للتعاون، والسماح لها بعرض البضائع الاستهلاكية المدعومة، وبذلك نكون قد وفرنا فرصاً للشباب العاطلين عن العمل، بدلاً من التظاهر في الشوارع لايجاد فرص للعمل واحراج
الدولة.
 
إلغاء قرار 128
لكني أجد أن البعض من بناياتكم قد تحولت الى سكن للعشوائيات، او مقر لبعض موظفي الدولة أو لجهات معروفة بالدولة، فبماذا تجيبين؟، كان هذا سؤالي للسيدة الگيلاني لتجيب، هذا صحيح، ولكن لدينا دعاوى قضائية في ما يخص تجاوزات القطاعين الخاص والعام، وبالتالي نحن نناشد وزارة العدل بالتعاون معنا من اجل ازالة هذه التجاوزات، وما دمت تبحث عن الحقيقة، فساعدنا ليصل صوتنا الى الجهات المختصة، فنحن نريد أن (نشتغل)، وان هذه الأسواق ما زالت قائمة كشخصية معنوية، ولديها مجلس ادارة واعداد كبيرة من الموظفين، لذلك عليها أن تقوم بمهامها وفقاً لقانون الشركات العامة رقم (22) لسنة 1997 المعدل النافذ، لكن صدور قرار مجلس الوزراء رقم (128) لسنة 2017 قد سلب حقوقها وامتيازاتها، واصبحت تصرفاتها محدودة بموجب هذا القرار،  ماذا تريدون؟، نتمنى الغاء هذا القرار، لأنه سيؤدي الى هيكلة الشركة وتصفيتها، والغاء تاريخها العريق، وفقدان المئات من الموظفين لوظائفهم، وهذا سيفاقم الوضع
 الاقتصادي.
 
خيارات للإبداع
وتابعت القول: كما إن القرار يفرض على الشركة طبيعة التصرف، في بعض الاحيان تأتي شركات عالمية معروفة ولديها العديد من المواقع في كل العالم وتتقدم بعروض استثمار لمواقعنا، لكن يتعذر عليها الحصول على اي موقع من مواقعنا بسبب التشريعات النافذة التي تقتضي ضرورة الاعلان وتقديم اكثر من عرض للتنافس، ما يؤدي الى ضياع فرصة الاحالة لهذه الشركات، ومنها (شركات الهايبر ماركت العالمية على سبيل المثال)، فنحن نبحث عن (استثناءات)، في ما يخص هذه الشركات العالمية لنجاري التطور الاقتصادي في
العالم.
وتواصل (الكيلاني) حديثها، نريد من الدولة أن تعطينا خيارات للإبداع وعدم إلزامنا بتوجيهات تقيد عملنا، وبسبب القرارات الجائرة التي وقعت على الشركة، تقلص ملاكنا الوظيفي الى (807) موظفين بعد أن كان العدد اكثر من ستة آلاف موظف من اصحاب الخبرة.
وهناك كارثة كبرى تواجهنا الآن، فشركات وزارة الصناعة تقوم بتقليدنا، وهذا الامر عرضنا الى خسارة كبيرة، وحتى من وزارتنا الحبيبة نتلقى الصفعات، وما هدفنا الا خدمة البلد، الا أن هذه حال الأسواق المركزية التي يتحسر الفقراء
عليها.
 
رأينا
وحتى يكون لنا رأي في الموضوع، ومن خلال جولتنا الميدانية، تبين لنا أن الأسواق المركزية يمكن أن تعود اذا تعاونت جميع الجهات المختصة لإعادة املاكها ودعمها في اعادة البناء، واستثمارها بنحو حقيقي، ولكن تبقى تحت رقابة الدولة، وأن تكون مدعومة لتكون عوناً للفقراء، وإن اعادة هيبة هذه الأسواق تتطلب قرارات عديدة من مجلس الوزراء باعطائها صلاحيات عديدة للاستثمار، واعادة اغلب الموظفين من أصحاب الخبرة للشركة، وليس مدحاً، بل لأني وجدت امرأة تريد أن تقدم شيئاً جديداً للشركة، لكنني أحس بأن قيوداً تعرقل عملها، فيا حكومتنا انتبهي للأسواق المركزية قبل أن تضيع في زحام (المولات)، واللهم اني
 بلغت.