من داخل حسن إلى محمد رمضان مَنْ الذي يغيّر أذواقنا ويتحكم بها

ريبورتاج 2021/12/19
...

   صفاء ذياب
الموضة، الأغاني، البيوت، القراءة، وغيرها الكثير، لا يمكن لها أن تستمر لعقود طويلة إذا لم يرد لها ذلك، فمع كل عقد جديد تتغير الأذواق، ومع كل عقد آخر تختلف القراءات والفنون وصرعات الموضة إن كانت على مستوى الملبس أو قصّات الشعر أو نوع الموسيقى أو الرسم بأشكاله المختلفة.
 
 
لهذا نجد أن ما كان جديداً ومرفوضاً في حينه، سيصبح مقبولاً في وقت لاحق، بل سيصبح تراثاً وفولكلوراً وماضياً نتمنى عودته. 
مع بدايات الموسيقار محمد عبد الوهاب، كان الجمهور يرفض حضور حفلاته، متمسكين بعبدة الحامولي وسيد درويش ومن ثمَّ صالح عبد الحي وغيرهم، والأمر نفسه كان على مستوى عبد الحليم حافظ الذي عدّه الجمهور خروجاً عن منهج عبد الوهاب وأم كلثوم، ولا ننسى اعتراضات الجمهور على سعدون جابر ومن ثمَّ أغاني الثمانينيات والتسعينيات، وحتى هذا اليوم- على الرغم مما وصل إليه- هناك من يرى أن كاظم الساهر خرج بالغناء إلى مسار بعيد عن الذوق العراقي المعروف.
والاعتراضات ذاتها بالنسبة للتشكيل، فمع كل مدرسة جديدة، ينادي الجمهور بأنها تخريب للذوق العام، وتغيير مسار الفن نحو الأسوأ، وهكذا مع الموضة في الملابس، إذ مثّل الجارلس في الستينيات والسبعينيات جنوناً مرفوضاً من المجتمع، لكنه مع مرور الزمن أصبح الموضة الأجمل، اذ البنطلون العريض من الأسفل، وياقة القميص الكبيرة والطويلة، ولا ننسى (الزلف) والشعر المجعد الذي كان يطلق عليه حينها (الخنافس). 
وربما لا يختلف هذا التحول كثيراً عن مقولة (الأيام دول)، على الرغم من أن المقصود بها انهيارات دول ما وصعود دول أخرى، وهكذا هي الموضة والذوق العام، في تغير مستمر، وتحولات لا حدَّ لها.
وما أعاد هذا الموضوع إلى الواجهة مجدداً، ما فعله الفنان المصري محمد رمضان، والحفلات التي ستقام لمطربي المهرجانات عمر كمال وحسن شاكوش، المصريين اللذين أعلنت نقابة المهن الموسيقية في مصر عن إلغاء تصريحات غنائهما ضمن 19 مطرب مهرجانات في مصر. 
غير أن الجمهور العراقي استقبل رمضان كما يستقبل فاتحاً في الحروب، أو عالماً عراقياً حصل على جائزة نوبل، ولا يعنينا الأموال التي حصل عليها رمضان وسيحصل عليها كمال وشاكوش، لكن ما الذي جعل من هؤلاء نماذج يتقاتل الشباب العراقيون لحضور حفلاتهم؟ وكيف يمكن أن تغير الميديا ذوق المجتمع،  فمن داخل حسن الى رياض أحمد وصولاً إلى مطربين عرب أثروا فينا، ووصولاً إلى مطربي المهرجانات، كيف تقرأ تحولات الذوق العراقي الآن؟.
 
الفن والواقع
يرى الفنان والعازف سامي نسيم، أنَّ الأسماء الفنية الكبيرة من جهابذة الفن الموسيقي والغنائي العربي والعراقي أثرت الذاكرة السمعية بالإبداع النوعي المتميز، وحققت حضوراً وخلوداً لها عبر التاريخ بما قدمته من ألحان خالدة وبأشعار وأداء يعد منهلاً للأجيال كلها، غير أنَّ التحول التقني عبر السوشيال ميديا وبالجانب السلبي منه غيَّر الوجهات والتأثيرات كثيراً بالفن الوافد البعيد عن واقعنا العربي اجتماعياً وفنياً، وأيضاً تدخلت جهات معادية لها مآرب وأطماع بمسخ هوية البلدان وبالتحديد الشباب العربي الذي ينساق بسهولة عبر الأضواء والتلوث السمعي وبقصد تقليد الفن الوافد الذي هو مدمّر لفكر الشباب شكلاً ومضموناً، لذا فعلى المؤسسات الثقافية التصدي له بقوة وحزم، ومنه النماذج المنبوذة حتى في بلدانها أمثال محمد رمضان والسائرين على دربه.
 
حزننا العراقي
وبحسب الموسيقي جمال عبد العزيز السماوي، فإنه بعد العام 2003 أصبحت المتغيرات واضحة في مفاصل الفنون والحياة عموماً، فضلاً عن الغناء الذي اختلفت وانقلبت أصوله، ما أدى إلى تغير الذوق العام وظهور طبقة من الشباب، لا يعرفون الغناء ولا الرقص بسبب الاتجاه العام الذي كان بتأثير المد الإسلامي عليهم، فضلاً عن الأناشيد الدينية والحسينية بالدرجة الأساس، ما جعل الشباب يميلون إلى الأغاني الحزينة بشكلها الجديد، في حين أن الحزن يمتد في تاريخ فننا وغنائنا الحديث لأكثر من مئة عام، بدءاً من أغاني الريف والبداوة وحتى أغاني المدينة في الجنوب والأغنية البغدادية والمقام العراقي.
ويضيف السماوي: إن النوع الغنائي الذي قدّمه محمد رمضان ربَّما يمثّل لدى الشباب العراقي صورة جديدة وتطوراً، لاسيما بعد تأثيرات ثورة تشرين في الشباب وبحثهم عن أي فن يرفض الشكل التقليدي، فأسلوب محمد رمضان هذا دفع هؤلاء الشباب نحو هذا اللون، ولا يمكن أن نهمل أن أغلب الشباب الذين حضروا حفلة محمد رمضان هم من الأغنياء أو أولاد المسؤولين أو مقاولي الزمن الجديد، وهذا الاحتمال راجع إلى التكلفة المرتفعة لدخول الحفلة، فلا يستطيع الموظف أو الكاسب دفع تذكرة تتراوح من 109 إلى 300 دولار.
ويتمنى السماوي على الحكومة العراقية ووزارة الثقافة مد يدهما للسيطرة على مهرجانات أو حفلات كهذه، من خلال إعادة توجيه الذوق العام، وتشكيل لجان لبحث المستحدث في الموسيقى والغناء وتوجيه الشباب عن طريق إقامة حفلات تحت توجيهاتها.
 
ذائقة متغيرة
ويبين الروائي مروان ياسين الدليمي أن الأغنية العراقية بجميع مراحلها، من حيث بنيتها اللحنية أو كلماتها، كانت لها خصوصيتها في إيصال المعلن والمسكوت عنه من شجن وفرح داخل الشخصية العراقية، بكل تفرد ملامحها الإنسانية والاجتماعية، وهناك أيقونات في الذاكرة الجمعية يصعب زوال تأثيرها، تشير إلى هذا الانسجام العبقري ما بين نزيف الحزن وعشق الحياة في مكنونات ايقاعاتها المحلية، وفي مقدمتهم يقف داخل حسن ورياض أحمد، كما لا يمكن إنكار ما حصل من تغيير عاصف في البناء اللحني، في العقدين الأخيرين، متجلياً في ميلوديات ذات ايقاع متكرّر مستنسخ من مجالس العزاء، حتى أن شطراً كبيراً من هذا النتاج أخذ الاغنية بعيداً جداً عن جماليات تعبيريتها السبعينية وترافتها البغدادية الستينية.
والمُلاحظ هنا، أن الأذن العراقية بكل حساسيتها الموسيقية بإمكانها أن تتقبل أنماط هذا التغيير بقدرٍ ما، لكنها ازاء توقيعات أخرى، غريبة من حيث جنسها اللحني عن الموسيقى العربية، مثل أغاني الراب، اذ لا يمكن أن تجد لها مستقراً طويلاً في ذائقتها، حتى وإن بدت لها جماهيرية كبيرة في الحفلات العامة، ولن يطول عليها الوقت حتى تختفي، لتبقى أغنيتنا العراقية بما تآلفنا عليها ومعها، وبما تبثه فينا من شجن وتعبيرية متوهجة.
 
ناي قديم
ويرى الشاعر والناقد خضير الزيدي أننا لو تتبعنا بعين ثاقبة، ورؤية واضحة، وذائقة جمالية تربت على التجديد في الفنون الانسانية، لوجدنا أنَّ ما نعيشه بهذه الفترة من ثقافة غنائية انما هو في رداءة لا مثيل لها منذ أن اتخذ السومري من القصب وسيلة للناي الجميل، كل شيء في الفن تغير وما عادت أم كلثوم تطرب هذه الأجيال ولا محمد عبد الوهاب ولا أسمهان ولا الغناء العراقي منذ داخل حسن حتى آخر صيحات الجيل السبعيني بغنائه العذب، فسدت ذائقة الجميع وخربت وبدت عاطلة عن لمسات الجمال.
ويشير الزيدي إلى أنَّ ما حدث أخيراً مع الضيف محمد رمضان يمثّل انتكاسة للجميع، وعلى نقابة الفنانين والجهات المعنية أن تتوقف عند هذا الخطأ في الوقت الذي كان من المفترض أن نشاهد ونستمع إلى أسماء غنائية جميلة في أدائها ونبرة صوتها، لكن الذي حدث كان مؤلماً لنا ونحن نشاهد هذه الرداءة في السلوك الإنساني والأداء الفني.