د. فلاح العامري
يؤشر مستوى أسعار النفط خلال الفترة الأخيرة بامكانية استمرارها في هذه المستويات وربما ترتفع الى مستويات اعلى خلال 2022. ورغم أن الأسعار هي انعكاس لعدة عوامل آنية ومتراكمة، وتشير الى أن مستويات الأسعار حاليا الى أنها تحت تأثير بعض العوامل المرحلية والآنية يعيشها العالم، خاصة من الناحية الاقتصادية والسياسية والبيئية والوبائية، اضافة الى الظروف والتغيرات التي تعيشها صناعة الطاقة على مستوى العالم.
ولكن على دول العالم ان تنتبه على هذه التحديات التي بدأت تنمو تدريجيا وأهمها مشكلة نقص الاستثمارات في صناعة النفط والغاز، فبعد أن كانت استثمارات النفط العالمية والغاز عام 2014 تتجاوز 750 مليار دولار سنويا، تناقصت تدريجيا وأصبحت عام 2021 بحدود 350 مليار دولار سنويا، اي حصول انخفاض ما يقارب 50 % ، والسبب الرئيس وراء هذا الانخفاض هو الضغط المستمر على شركات النفط والطاقة العالمية لتقليص استثماراتها في صناعة الطاقة الأحفورية.
لقد بدأت المشكلة بشكل واضح بعد حدوث صدمة انهيار أسعار النفط عام 2014 نتيجة زيادة المعروض النفطي، الذي أدى الى الانخفاض في الاستثمارات الخاصة في النفط الصخري الأميركي الذي مر بصدمتين في عام 2014، وحصلت صدمة أخرى العام 2020 نتيجة لانخفاض الطلب بسبب جائحة كورونا. إضافة الى ذلك جاءت مقررات الاتفاقية الاطارية لمكافحة التغيرات المناخية، اتفاقية باريس 2015، والتي طالبت المجتمع الدولي بعدم تجاوز درجة حرارة الارض ١،٥ درجة مئوية مقارنة بدرجة الحرارة عندما بدأت الثورة الصناعية في القرن الماضي، اضافة الى اتفاقية الاطارية لمكافحة التغيرات المناخية غلاسكو لعام 2021 .
لقد وضعت هاتان الاتفاقيتان خارطة طريق لدول العالم لتغيير ستراتيجية انتاج واستهلاك مصادر الطاقة بهدف مكافحة التغيرات المناخية للسيطرة على الاحتباس الحراري للغلاف الجوي للارض من خلال التحول من مصادر الطاقة الاحفورية الى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة.
وعليه أصبحت شركات الطاقة العالمية تحت ضغط شديد من قبل اداراتها لتخفيض الاستثمارات في الوقود الاحفوري، اضافة الى ان سياسة البنوك العالمية التي تمول الاستثمارات النفطية أصبحت تشجع على تخفيض الاستثمارات في مصادر الوقود الاحفوري وزيادتها في مصادر الطاقة المتجددة، هذه الاجراءات التشريعية والمالية العالمية ساهمت في التغيير في ستراتيجية الطاقة العالمية، والتي ستكون له آثارٌ واسعةٌ ستظهر آجلا او عاجلًا. وسوف يشهد العالم نقصا تدريجيا في انتاج ومعروض مصادر الوقود الاحفوري، خاصة النفط الذي لا يقابله نمو موازٍ من مصادر الطاقة المتجددة، وبالتالي يؤدي الى حصول خلل في توازن العرض والطلب على الطاقةً الاحفورية بشكل عام والنفط بشكل خاص، وربما تستمر فترة التوازن في اساسيات اسواق النفط لفترة طويلة الى أن تتمكن من السيطرة عليه والوصول الى حالة التوازن بين العرض
والطلب.
وقد بدا هذا الوضع يقلق الدول المستهلكة وارتفعت المخاوف من حصول نقص مزمن مستقبلا في الطاقة خاصة النفط، وقد انخفضت الاحتياطات الحالية من النفط لهذه الشركات لدرجة اصبحت مدة انتاجها تقدر بحوالي 15 سنة، وهذا الوضع قد يضع العالم في موقف لا يجد ما يكفي من كميات النفط والغاز، وتصبح هناك مشكلتان وهما النقص في الطاقة اولا متزامنة مع مشكلة التغيرات المناخية ثانيا.
ولكن من جهة اخرى ربما يحصل انخفاض في النمو الاقتصادي العالمي في اي لحظة وامتدادا لتاثير جائحة كورونا ومتحوراتها، وهذا يؤدي الى انخفاض الطلب على مصادر الطاقةً الاحفورية من الدول الصناعية والمتقدمة، والتي تملك اقتصاديات كبيرة كالولايات المتحدة الأميركية والصين والهند ودولا اخرى، ويؤدي ذلك الى زيادة المعروض من النفط ويقود الى انخفاض أسعار النفط. وهذا ليس من المتوقع أن يحصل عام 2022.
وهذا يعني أن العالم مستمر في دوراته الاقتصادية والتي تقود الى الدورة في الارتفاع والانخفاض في اسعار الطاقةً والنفط بشكل خاص. وتسود حالة عدم الاستقرار في أسواق الطاقة والتذبذب الحاد في اسعار الطاقةً وخاصة النفط، حيث ربما ترتفع أسعار مصادر الطاقة الاحفورية الى مستويات عالية.
ولكن المستفيد الأكبر من هذا الوضع هي الدول والشركات النفطية العالمية ومنتجو الطاقة الاحفورية بشكل عام، حيث سوف يتمتعون بأسعار مقبولة ومريحة.
وهذه فرصة مهمة للدول المنتجة للنفط والغاز للاستفادة من احتمال استقرار أسعار النفط ضمن مستويات عالية مقبولة لها وميزانياتها المالية السنوية وفرصة مهمة لاعادة هيكلة اقتصاديتها ووضع خارطة طريق للتنوع الاقتصادي والتنمية المستدامة، وتنويع مصادر الطاقة ومكافحة التلوث البيئي والتخلص من الاقتصاد الريعي واخيرا وهي الاهم هي تبني مبادئ الحوكمة ونظام الحكومة الرشيدة.
*استشاري دولي
في اقتصاديات الطاقة