العالم والتصيّر التاريخي للتطور

منصة 2022/01/30
...

 الدكتور حسين الهنداوي
ذهنية خاصة باللاتاريخ
دار لي حديث مع واحدٍ من أكبر المستشرقين، في واحدة من أكثر جامعات الدنيا مجداً وأبهة في انكلترا، بعد مدة أسبوع من حادثة الزميل وتشرفه بمواجهة رسل ودار حديثي مع المستشرق الكبير، الذي يقرأ العربية والانكليزية والفرنسية والتركية والإغريقية واللاتينية والعبرية ولغات أخرى لا تسعفنا الذاكرة بتذكرها الآن، حتى ورد اسم (برتراند رسل)، فاحمر المستشرق الكبير مستنكراً ورود اسم رسل في الصومعة الاستشراقية المحضة ضد الفكر الحديث، وقال المستشرق الكبير ما يثير كل دواعي الاشفاق بعد أن قام واقفاً وأشار إلى رفوف مكتبته العامرة قائلا : «انظر، إنك لا تجد كتاباً في هذه المكتبة من تأليف مستر (رسل)..» ولم أتعجب لأني كنت قد أيقنت مند سنين أن اللاتاريخ يرفض التاريخ، وأن التاريخ لا يكترث باللاتاريخ، وأن المستشرقين ينطلقون من اللاتاريخ إلى اللاتاريخ خارج التاريخ، وانهم بما هم كذلك يمثلون ذهنية خاصة سعيدة باللاتاريخ وبالكتابة لقرائهم المستشرقين وذوي الاختصاص من الآسيويين والأفارقة غير مقلقين بحقيقة عدم استلفاتهم اهتمام القارئ الأوروبي بما يكتبون..
فنحن إذاً لا نرفض مناهج الاستشراق وطرائق المستشرقين لأنها مناهج أوروبيين، بل لأنها مناهج انعزالية وطرائق انفصالية، وقفت عند حد العجز عن طرح قضية ثقافية تثير انتباه القارئ الأوروبي الذي هو - يجب أن نعترف – قارئ حصيف..
بقي أن نذكر أن المستعربين من المستشرقين مثل العرب ضحية مرحلة تاريخية عزلت العرب عن مواكبة الحضارة المعاصرة وعزلت المستعربين عن قواعد المنهج الصحيح الذي يستلزم دراسة دوائر الثقافات ضمن إطار تاريخ الإنسانية المتكامل، فالتاريخ مثل الإنسان واحد، لكن المستشرق إنسان خاص، فهو ليس کلاسیكياً ولا معاصراً، ولا بین بین من هاتين الصفتين، بالمفهوم الحضاري المعاصر، انما هو إن شئت الحقيقة - مخلوق طریف يدرس آداب وفلسفات وتشريع وعلوم وتاريخ أناس (طريفين) عندهم جمال وفيلة وزرافات وأدب وفلسفة ونفط وتاريخ وتوابل وشاي وذهب وأسواق لتصريف بضائع الأوروبي المسيحي الأبيض الذي عنده مفهوم کلاسیكي راسخ ومفهوم معاصر رصين عن وحدة الثقافة الأوروبية، وهي الوحدة التي يستمد منها المستشرق دوافع نشاطه في الاستشراق لكنه لا يستمد منها طرائق ومناهج بحثه التي هي لا كلاسيكية ولا معاصرة بل هي مناهج استطلاع لاهثة وراء تصيد الحقائق في كتب أصحاب الفكر الظريف ومنهم العرب الذين عندهم نفط في بطن الأرض، وعندهم ثقافة في بطون الكتب لكنهم يستعظمون أمر الشغل، ويكرهون العمل، ويهابون مغامرة التفكير.. فلتبدأ الشركات الاستثمارية اذن، وليبدأ الاستشراق، وليكن من المستشرقين مستعربون، ولیكن هؤلاء المستعربون مخلوقات ظريفة لا هم قساوسة ولا هم حاخامات ولا هم من مشايخ الاسلام.
وتنطلق هذه المخلوقات الظريفة من اللاتاريخ إلى اللاتاريخ خارج التاريخ، فكان المستعربون، وقضي الأمر وبدأ الاستعراب حملة استطلاعية استكشافية ضمن حملة البحث عن أسواق ومواد خام ومخطوطات، وهذا منطلق غير اكاديمي وغير ثقافي، انما هو – ظن ما شئت- منطلق استشراقي بذهنية استشراقية خاصة، تتوخى جميع المواد الخام مخطوطات، واقامة صناعة استشراقية على هذه المخطوطات واعادتها إلى العرب مفبركة حسب الملاءمة الحامية لإعادة القطن منسوجاً، وحسب ملاءمة الحاجة لتصدير الورق إلى بلاد الناس الظريفين الذين عندهم قش وتبن وألياف ويستعظمون أمر صناعة الورق.. إنهم لا يصنعون ماكينة تصنع الورق، ولا يستوردون ماكينة تصنع الورق، بل يستوردون الورق، إنهم يخافون الماكينة ويخافون ممارسة التفكير ويرسلون أولادهم إلى لندن وباريس ليكونوا فكرة من محتويات المخطوطات العربية، والكتب العربية، والأفكار العربية التي هي مثل النفط بحاجة إلى خبرة مستشرق يستخرجها للعرب استخراجاً من بطون الكتب العربية المكتوبة باللغة العربية في البلاد العربية.
أليس من حق المستشرق حينئذ أن يتمشیَّخ ؟! فليتمشیخ اذن، المستعربون، ولیکن منهم دراويش ومتصوفة وأصحاب طرق، ولیکن لهم من العرب مریدون في زوايا وتكايا الجامعات المجيدة التي لم ولن تعترف بقيمة أكاديمية لزوايا وتكايا الاستشراق المنطلق من اللاتاريخ إلى اللاتاریخ خارج التاريخ، بقصد تأبید سجن العرب ضمن حدود السور الاستشراقي المشاد بأسلوب الخارج على الحضارة- بغفلة الغافل، أو بتمثيل المفتعل - من أجل إيقاف التاريخ عن تخوم الفكر الاسكولاستیكي فلا يهدد ما قام الاستشراق من أجله..
 
مهمة الفلسفة والمناطقة الوضعيون
نجم الدين بزركان
مجلة الاديب / 1 تموز 1957
يرى المناطقة الوضعيون أن الفلسفة ما هي الا تحليل صرف، لا تقول من عندها شيئا بل تترك للعلماء حق الحديث عن العالم بما لهم من ادوات الملاحظة والتجارب العلمية وعلى الفيلسوف واجب واحد، هو ان يحلل العبارات اللغوية التي يستخدمها هؤلاء العلماء تحليلا يقوم على منطق اللغة ذاتها وبذلك يفرقون بين ما يجوز وما لا يجوز.
واعلام هذه الفلسفة وبخاصة المتأخرين منهم يقفون من التاريخ موقف اللامبالاة ويزعمون أنهم رواد منهج هو وحده الصحيح وهو وحده الحديث في تاريخ الفكر الفلسفي، وهم يرفضون بصراحة الهدف الكلاسيكي للفلسفة والذي هو اعطاء صورة عن العالم والانسان، وفي هذا يقول برتراند رسل، أحد المؤسسين لهذا المذهب، بان الفلسفة لا تقيم ولا تستطيع أن تقيم او تكشف حقائق جديدة او تعيينات جديدة فيما يتعلق بالعالم، وانما يقع كل ذلك على عاتق العلم ولا يمكن أن يتم الا على اسس من الدلائل العلمية والمنهج العلمي.
والحقيقة أنهم يرفضون الفلسفة لانهم يفصلونها عن العلم وعن الحياة. وهم يبدأون بالقول بان كل ما نستطيع أن نعرفه عن العالم وعن المجتمع البشري هو ما تعبر عنه قضايا العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وان الفلسفة لا دخل لها مع هذه أو تلك، أنها تهتم بتحليل المنطق، وهو دراسة خاصة متخصصة. ومن تحليل اللغة هذا ينتقلون إلى القول بان العلوم لا تستطيع أن تكشف شيئا عن العالم الموضوعي، وعن قوانين الحركة الموضوعية وتبادل العلاقة بين الطبيعة والمجتمع. بل ان العلوم تهتم بالعلاقات القائمة بين المعطيات القابلة للملاحظة. وهكذا فان رفضهم للفلسفة بالمفهوم الكلاسيكي هو رفض للمعرفة العلمية بنفس الوقت، لان رفضهم للفلسفة على انها بیان عن الطبيعة وعن العالم وعن المجتمع البشري، يتضمن بصورة مباشرة رفضهم للعلم ایضا.
ان الفلسفة هي محاولة تفهم طبيعة العالم ومكانتنا ومصيرنا فيه، لقد كانت مهمة الفلسفة دوما تغنية هذا التفهم وتعميم نتائجه، وهو ما حاول القيام به الفلاسفة القدماء العظام. وكان مقياس عظمتهم في كل الازمان، درجة توفيقهم في التعبير عن جماع الخبرة الاجتماعية والاكتشاف العلمي المتيسر في زمنهم، وذلك خلال تصميماتهم الفلسفية.
ان هذا يفسر لنا سبب صعوبة او استحالة تقييم او نقد آراء هؤلاء الفلاسفة الا على أساس من اعتبار الظروف التاريخية التي حددت طريقة عرضهم لمسائلهم والطريق التي وصفوها كحل لهذه المسائل.
ومن الضروري جدا، للوقوف بوجه الوضعية المنطقية، إعادة وضع الهدف الكلاسيكي للفلسفة، ولكن ليس بمفهوم اختراع مذاهب فلسفية جديدة. فلقد انقضى عهدها، فليست ثمة فلسفة تستطيع ان تقف فوق العلوم وتدعي انها اساس لنظام عام للعالم قائم على أسس تختلف عن الإسم المتبعة في البحوث العلمية التجريبية.
ان ما يطلب من الفلسفة هو أن ترسم وتستخلص مبادءها ونتائجها من العلوم نفسها، عليها أن تكون تعميما للعلوم، قائمة على العلوم، وتعتني باستمرار بتقدم العلوم. وعليها في الوقت نفسه أن تصبح سلاحا بيد العلم، يعني منهجا ينفذ الى العلوم ويقود البحث العلمي وعملية صياغة النظرية العلمية. وخلافا للمذاهب القديمة التي كان هدفها ينحصر في تفسير العالم فان على مثل هذه الفلسفة ان تستهدف توضیح : كيف يستطيع الإنسان، بطريقة فعالة أن يغير العالم.
ولكنَّ المناطقة الوضعيين يتهربون من هذه المهمة فيقول رسل مثلا في كتابه (معرفتنا عن العالم الخارجي)... «أن الفلسفة العلمية الأصيلة... لا تقدم او تحاول ان تقدم حلا لمشكلة المصير الانساني... او مشكلة مصير العالم...».
ولقد اعلن رسل من بعد ذلك منهجا فلسفيا يمكن تلخيصه بالنقاط التالية:
- إنَّ الحقائق والتعميمات التي تدور حول العالم، وبكلمة أخرى إنَّ العلم الوضعي، ينبغي الوصول إليه تجريبياً من خلال الإدراك الحسي المألوف - من جهة - وبواسطة تكنيك دقيق للعلم من جهة أخرى. إنَّ الحقائق والتعميمات المجهولة في ما يتعلق بالعالم لا يمكن أنْ تكتشف بواسطة التفكير القبلي prleri a.
- ان مهمة الفلسفة هي اخضاع القضايا التي تتوصل اليها بالادراك الحسي وبالعلم الى التحليل المنطقي.
ان هذا التحليل المنطقي لا يستطيع ان يقيم حقائق جديدة.
- ولكن تحليل وتوضيح الشكل المنطقي للحقائق المعروفة، يضيف إلى العلم الوضعي وضوحاً جديداً، ونستطيع بهذا التحليل أن نتغلب على الخلط والحيرة العقلية التي تنشأ من عدم وضوح الشكل المنطقي نفسه.
قد يبدو هذا المنهج، للنظرة الأولى، معقولاً وتقدمیاً، وكيف لا يكون وهو الذي ينص بأنَّ معرفتنا للعالم مشتقة من إدراكنا الحسي، وأنَّ مهمة الفلسفة هي تهيئة وتوضيح هذه المعرفة الموضوعية؟.
ولكن نظرة ابعد تكشف عن زيف هذا المنهج «الحديث»، وتبين انه صنو للمنهج الفلسفي الموغل في القدم والذي جاء به « برکلي » ومن تبعه من بعده. فلقد  قالوا إننا «نتقبل » ما يتوصل إليه العلم ولكننا نقدم له تفسيراً خاصاً. واليوم يأتي رسل وجماعة الوضعية ليقولوا نحن «نتقبل» ما يتوصل إليه العلم لكننا نخضعه «لتحليل منطقي».
 
المفهوم السکوني للطبيعة
إنَّ الطريقة العلمية في البحث، في مجرى تطورها الهائل في العصر الحديث، امتدت لتشمل مجالا بعد اخر، بحيث لم تترك جزءاً أو جانباً من الطبيعة او المجتمع البشري يقف مغلوقا أمام البحث العلمي. ونتيجة للانجازات العظيمة التي تمت في التحليل العلمي، من تحليل المركبات الى اجزائها، والعمليات التي تجري على نطاق واسع الى عملیات صغيرة، ونتيجة لتطور العلم برز التعميم بأنَّ لا العالم بوصفه کلاً ولا أجزاؤه، يمكن عده شیئاً ثابتاً وساکناً، كما كان الرأي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. بل إن. العالم كله وكل ما يحويه خاضع لقوانين التغير وله دوره في التصير التاريخي للتطور. ومن المفهوم السکوني للطبيعة بوصفها تکراراً متتابعا لأنواع لا تتغير من التصيرات، تقدم العلم الى المفاهيم التطورية والتي غزت المجالات تلو المجالات، مثل اصل وتطور المجموعة الشمسية والنجوم والمجرات، في علم الفلك، وتقصي تاريخ تطور الأرض في الجيولوجي وجدول مندليف الدوري للعناصر في الكيمياء ونظرية تطور الانواع العضوية في البايولوجي وفي المفاهيم الأخرى في التطور التدرجي للمجتمع البشري.