الروح المعذبة

الصفحة الاخيرة 2022/03/14
...

ستار كاووش
بضيافتنا اليوم رسامة مختلفة، لوحاتها غريبة وحياتها أشد غرابة، إنها الفرنسية سيرافين لويس (1864-1942) التي بدأت الرسم بعمر الأربعين، بعد أن أجبرتها الظروف في صباها على العمل كراعية للأغنام، ثم التحقت في مراهقتها كنادلة في بيت للراهبات، لتحصل بعد سنوات طويلة على عمل كمنظفة في بيت أسرة من الطبقة المتوسطة. وفي ذلك البيت اكتشفها جامع اللوحات فيلهلم أوده، حيث ساعدها في بيع مجموعة من لوحاتها، لتحصل على بعض النقود، بعد أن كانت توفر نقوداً قليلةً جداً من عملها في التنظيف، لتشتري الألوان وبعض حاجات الرسم الأخرى وأحياناً كانت تصنع الألوان بنفسها من الأعشاب وبطريقة بدائية. ولعدم توفر النقود في الغالب فقد اضطرت في إحدى المرات إلى السطو ليلاً على المخزن الذي تشتري منه أدوات الرسم لتسرق مجموعة من الألوان وعدة أمتار من الكانفاس وبعض الأشياء الأخرى التي تستعملها في تنفيذ أعمالها .
تنتمي أعمال سيرافين إلى المدرسة البدائية في الرسم على غرار مواطنها هنري روسو لكن حياتها أقرب إلى حياة فنسنت فان خوخ، بل هي برأيي تمثل النسخة النسائية من فان خوخ حيث الجنون والفاقة وعدم الاعتراف. فبعد فترة قصيرة من انتباه الناس للوحاتها، حصل كساد اقتصادي في أوروبا ولم يهتم أحد بتلك اللوحات، فساءت حالتها المادية والصحية كثيراً وعانت من ذهان مزمن، دخلت على إثره مستشفى الأمراض العقلية، وتوقفت عن الرسم حتى توفيت أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا.
كانت سيرافين تعالج لوحاتها بعفوية وجرأة وحرية كبيرة، ليست لديها مقاييس ولا تحفظات، تضع قماشاتها على الأرض وتنكب عليها، لترسم وبجانبها كأس نبيذ رخيص. وهي لم تستعمل الفرشاة كثيراً، وبدلاً من ذلك كانت أصابعها هي أداة الرسم، حيث تحركها على سطوح اللوحات بشكل دائري، لتنسج أشكالها الغامضة التي تحيلنا دائماً إلى أوراق الأشجار والنباتات الغريبة. تغلق باب المرسم وتنسجم مع عالمها الوحيد، حيث تعتزل الناس ولا تفتح الباب لأحد، وبذلك تبدو للكثيرين إمرأة من زمن مضى، لكن لوحاتها بقيت تحمل سحر الحاضر والمستقبل، حيث تحتل الآن جدران المتاحف بعد أن انتظرت طويلاً من يزيل عنها غبار النسيان. وهكذا بمرور الوقت اهتمت المتاحف بأعمال سيرافين التي لم تتواصل مع ناس عديدين أثناء حياتها ولم يكن لديها أصدقاء. كانت لها وحدتها وأعمالها والملائكة الذين تتخيلهم يساعدونها في الرسم، وهنا تبدو كما لو أنها جاءت من عالم سري بعيد، عالم غير مادي. حتى المصورة التي صورتها مرة وحيدة وهي بجانب لوحتها، تقول: إنها سألتها باستغراب (لماذا تنظرين إلى الأعلى؟ أنظري إليّ كي أصورك جيداً) لترد عليها سيرافين (أنا أنظر إلى الملائكة، هؤلاء هم أصدقائي، وهم الذين يساعدونني دائماً في الرسم ويمنحونني هذه الأشكال التي أحبها). الآن تحتضن الكثير من المتاحف أعمال هذه الرسامة الساحرة الفقيرة، مثل متحف مايول في باريس ومتحف شارلوتا زاندر في بونخهايم ومتحف الفن البدائي في نيس ومتحف الفن الحديث في ليل وغيرها الكثير. مضت هذه الرسامة وبقيت أعمالها شاهدة على تلك الروح المعذبة والطيبة والجميلة.