الماء.. حياة وموت ونزاعات

ريبورتاج 2022/04/06
...

 محمد عجيل 
 تصوير: نهاد العزاوي
قال الله تعالى في كتابه الكريم «وخلقنا من الماء كل شيء حي»، في إشارة إلى الحياة بمختلف فعالياتها وساكنيها من كائنات حية بشرية وحيوانية ما كانت لتستمر لولا وجود الماء في كل صنوفه العذبة التي تستخدم للشرب وتحضير الطعام والغسيل، والمالحة التي تشكل البحار والمحيطات الجزء الأكبر منها، وتستخدم معابر للسفن، حيث نقل البضائع والمسافرين بين العالم، ومما يعزز أهمية ومكانة الماء هو ذكره أكثر من مئتي مرة في القرآن الكريم، ولعل الأجمل فيها قوله تعالى «وجنات تجري من تحتها الأنهار»، كما ورد الماء في الأحاديث النبوية كقول رسول الله محمد (ص) «إن الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار».
 
وأصل كلمة الماء في اللغة العربية (موه) فقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فاجتمع حرفان خفيان فقلبت الهاء همزة ولهذا يرد إلى أصله في الجمع والتصغير، فيقال مياه ومويه، وقالوا أمواهاً أيضاً، وربما قالوا أمواء ويقال أماهها الله.
وصفات الماء الكيميائية هي أنه لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ويغلي عند 100 درجة مئوية، وينجمد عند الصفر المئوي، ويشكل جيوسياسياً مياهاً إقليمية مثل البحر الأحمر، ومياهاً دولية مثل البحر المتوسط، ومحلية مثل نهري دجلة والفرات. 
 
الماء في الثقافة
كان وما زال الماء يشكل محوراً مهماً من محاور الثقافة، سواء في القصيدة أو الرواية العربية، فهذا الشعر يتسم بحضور لافت للماء، وحينما تغنى شاعر العرب الأكبر بنهر دجلة، يا دجلة الخير يا أم البساتين.. حييت سفحك عن بعد فحييني، فإنما أراد أن ينقل مشاعره تجاه دجلة بمائه العذب، والماء وجد في وجدان الشاعر بكونه مفردة تثير الجمالية وتبعث الحياة، إذ عبر شاعر الصعاليك عروة بن الورد عن الماء في قوله: اقسم جسمي في جسوم كثيرة.. واحسوا قراح الماء والماء بارد، اما أبو الطيب المتنبي  فقد رسم صورته وهو غريق في الماء قائلاً: والهجر اقتل لي مما اراقبه ..انا الغريق فما خوفي من البلل، ويصف أمير المؤمنين علي(ع) الماء من خلال سير السفن ويقول: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها.. إن السفينة لا تجري على اليبس، كما ويتحدث الشاعر المصري حافظ ابراهيم واصفاً الماء من خلال البحر: أنا البحر في أحشائه الدر كامن .. فهل سألوا الغَوّاصَ عن صدفاتي. وعبر ابن الرومي عن الماء قائلاً: كأننا والماء من حولنا.. قوم جلوس حولهم
ماء.
 
في الروايات
وبخصوص الرواية العربية فإن الكثير من الروايات استخدمت الماء كمفردة، ورمزية كأداة للتطهر من طبائع سياسية واجتماعية ودينية مثل رواية الأديب نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني في العقد الثمانيني، وهي أحد مرتكزات حصوله على جائزة نوبل للآداب، إضافة إلى رواية «موسم الهجرة للشمال» للروائي السوداني الطيب صالح، و»الشراع والعاصفة» لحنا مينه.
 
الماء والكوارث
رغم جمالية الماء وأهميته في الحياة، لكنه ارتبط بأحداث لا يمكن نسيانها، بعد أن راح ضحيتها العشرات من البشر، وخاصة في عرض البحر، ناهيك عن الأحداث اليومية التي تشهدها الأنهار والجداول، ففي صبيحة 15 أبريل/ نيسان من عام 1912 ايقظ صوت السفينة تايتانك العالم على فاجعة كبيرة حدثت في شمال المحيط الأطلسي بعد أربعة أيام من رحلتها من مدينة ساوثهاميتون إلى مدينة نيويورك، وكان على متنها 2224 شخصاً، إذ اصطدمت بجبل جليدي، ما أدى إلى غرق جميع ركابها، بينما ذهب ضحية الحادث 1500 راكب ومن ضمنهم الطاقم المؤلف من سبع أشخاص.  والحادث الكبير الآخر الذي شهدته مياه البحر هو ذلك الذي أودى بحياة 370 مهاجراً في غرق مركب كان يقلهم قبالة سواحل جزيرة جاوة الاندونيسية عام 2001، وشكل هذا الحادث ردود فعل حزينة وسرية لم تظهر في الإعلام العراقي آنذاك، لأن جميع الضحايا كانوا هاربين من بطش النظام الدكتاتوري.
ولم ينس المصريون حادث غرق عبارة السلام عام 2006 في عرض البحر الأحمر والتي راح ضحيتها قرابة ألف شخص، ولم يكن هذا الحادث هو الأول من نوعه على الصعيد المصري، بل كانت هناك العبارة اكسبرس التي غرقت عام 1991 وراح ضحيتها 450 شخصاً.
 
الماء ورقة ضاغطة
رغم أن الماء واحد من مخرجات الطبيعة إلا أنه أصبح في العقود الأخيرة ورقة ضاغطة بيد الحكام والدول، لا بل أصبح أسلوباً للمزايدات السياسية كما تشهده العلاقات العراقية التركية، فمن المعروف أن نهر الفرات ينبع من الأراضي السورية ونهر دجلة ينبع من الأراضي التركية، إلا أن الأخيرة أخذت تستغل هذا الانحدار المائي للابتزاز والتدخل السياسي في الشأن العراقي، وما زاد من الطين بلة قيامها بإنشاء سد اتاتورك على أراضيها لغرض التحكم بكميات المياه الذاهبة باتجاه الأراضي العراقية، يقول الباحث السياسي وأستاذ الإعلام في كلية الآداب بجامعة بابل الدكتور بدر ناصر «إن الجانب التركي وكلما شعر بخطر حزب العمال الكردستاني المتمركز على حدوده مع العراق، أخذ يلوح بورقة المياه، ما يؤثر سلباً في الخزين العراقي ومن ثم يظهر تأثيره رويداً رويداً في القدرة الزراعية العراقية، علماً أن الأراضي الصالحة للزراعة الممتدة مع نهر دجلة تقدر بملايين الدونمات التي تعد من أفضل الأراضي الزراعية في الشرق الأوسط». 
وأكد «أن الأتراك يخترقون القوانين الدولية التي ترعى مصالح الدول المتشاطئة من أجل الضغط والابتزاز السياسي، ما يتطلب وضع خطة ستراتيجية من شأنها تقويض السيطرة التركية»، ومن جهته يشير أستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة القادسية محمد  سلمان إلى أن «أزمة المياه التي يعاني منها العراق والتي تسببت في هجرة العشرات من الأسر العراقية نحو المدينة ماهي إلا انعكاس للسياسة التركية التي تهدف إلى خلق أزمات اقتصادية ومن ثم اجتماعية، من خلال زيادة العاطلين عن العمل وتصحر الأرض وهجرة الريف حتى يصبح العراق مستورداً للمنتج التركي بعد أن كان قد حقق الاكتفاء الذاتي». 
ويقترح سلمان على الحكومة العراقية الوصول إلى اتفاقيات مع الجانب التركي وفقاً للمبادئ الدولية التي تعطينا الحق في الحصول على الكميات المطلوبة والكافية بعيداً عن الاستفزازات وصور التدخل، خاصة أن الكثير من الباحثين السياسيين لوحوا أكثر من مرة أن حرب المياه قادمة للمنطقة غداً أو بعد غد، خاصة أن التاريخ يرشدنا إلى نزاع حصل على ماء نهري دجلة والفرات قبل 4000 سنة. 
 
الماء وناقوس الخطر
تشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى أن قرابة مليار إنسان قد لا يستطيعون الحصول على حقهم في المياه عام 2050، ما يعزز المخاوف من حصول نزاعات دولية يصعب إيقافها، وتحذر التقارير الأممية من أن بعض تلك النزاعات ما زالت نائمة دون حصول صدام مسلح، مثل نزاع الأردن والسلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني على نهر الأردن.   وهناك صراع على مياه بحر الارال بين خمس دول هي كازاخستان واوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وقيرغيزستان، إضافة إلى وجود نزاع مسلح بين أفغانستان وإيران، وهذا ما يدعو كما يشير الباحث السياسي الأردني صالح القلاب إلى حث المنظمة الدولية على مزيد من الدعم لغرض دفع الدول المتشاطئة إلى احترام الاتفاقيات الدولية التي وجدت، لغرض حفظ السلم الأهلي والابتعاد عن النزاعات الدولية، وأوضح أن «المياه لم تعد مصدراً للشرب والصناعة وصيد الأسماك كما كانت قبل مئات السنين، بل أصبحت حالياً ترسانة للأسلحة بمختلف أنواعها، إذ تكثر السفن الحربية التي تنقل مئات الطائرات، إضافة إلى الغواصات النووية التي تجوب في عرض البحر باحثة عن فرصة للمواجهة». 
 
نزاع سد النهضة
 واحد من أهم النزاعات التي تشهدها المنطقة حالياً هو ذلك النزاع المصري الأثيوبي والذي تفجر في السنوات الأخيرة بعد قيام الجانب الأثيوبي ببناء سد النهضة على نهر النيل، ما قد يؤثر سلباً على كميات المياه الواصلة للجانبين السوداني والمصري، ويقول الباحث المصري الدكتور محمود الرديني «إن النزاع على سد النهضة هو نزاع سياسي قبل أن يكون اقتصادياً، وهدفه هو التأثير في القرار المصري المستقبلي بما يخص معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني.  وفي نظرة متأنية في كيفية بناء السد وتمويله نجد أن هناك دولاً ومن ضمنها عربية مولت السد لغاية في نفس يعقوب، ما يضعنا أمام تحدٍ لا مفر منه، وهو أما القبول بالأمر الواقع أو إرغام الجانب الأثيوبي على توقيع اتفاق يحفظ لمصر أحقيتها في المياه على اعتبار أن منابع النيل لم تكن يوماً ما أثيوبية المنشأ.
 وأنا لا استبعد (وما زال الحديث للرديني)، أن يحدث تصادم عسكري إذا ما عرفنا أن المياه أصبحت سلاحاً ستراتيجياً غايته تدمير البنية الاقتصادية للشعوب.  ونحن نتذكر كيف أن جزر فولكلاند، وهي جزر مائية أحدثت نزاعاً بين كل من الأرجنتين وبريطانيا، إضافة إلى التهديدات الإيرانية بين فترة وأخرى لغلق مضيق هرمز بوجه الملاحة الدولية، وأنتم كعراقيين لا بد أن تستذكروا أن واحداً من أسباب الخصومة مع الجانب الإيراني هو مياه شط العرب، واتفاقية الجزائر عام 1975 والتي ألغيت من الجانب العراقي عام 1980.