الأثر المباشر للأصول التأسيسيَّة للثقافة

ريبورتاج 2022/04/11
...

  صفاء ذياب
  تصوير: نهاد العزاوي
لكل ثقافة منتجها الذي يختلف عن الثقافات الأخرى، فمثلما عرفت الحضارة السومرية بالأساطير والنصوص الأدبية، عرفت الحضارة الإغريقية بالفلسفة والسفسطائية والمسرح، وهكذا تتباين المرجعيات المؤسسة للثقافات الأولى، مثلما تتباين المرجعيات المنتجة للثقافات اللاحقة، وهذا يتضح من كون العراق- على سبيل المثال- بلد بنيت أسسه من أساطير الآلهة إينانا وملحمة كلكامش، والاثنان كتبا شعراً، في حين لم يعن أجدادنا الأوائل كثيراً بالفلسفة، على الرغم من وجودها، إلا أن الأدب كان الأساس الذي بنيت عليه ثقافتنا التأسيسية، وهو ما جعل العراق معروفاً بالشعر على حساب الرواية والنقد- وهذا ليس قانوناً ثابتاً لأن  النتاج الروائي والنقدي وصل إلى مراحل مهمة في العقود الأخيرة- إلا أن الشعر هو الأغزر إنتاجاً أولا، وثانياً لم نبنِ حتى اليوم تقاليد ثقافية لإنتاج الرواية وقراءتها ونقدها بالشكل الحقيقي لهذا الإنتاج.
الأمر نفسه ينطبق على ثقافات أخرى، مثل المغرب العربي، فقد كانت مرجعياته الأولى متنوعة، لا سيما ثقافات الصحراء والبربر ومن ثمَّ ارتباطه بالثقافتين الفرنسية والإسبانية، فكان النقد والفلسفة منفذين مهمين لتقديم طروحاتهم منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، وهكذا يمكن قراءة الثقافة المصرية والسورية وغيرهما من الثقافات المحيطة، فما الذي يجعل من بيئة تنتج نصوصاً إبداعية وتبتعد عن الفكر والفلسفة والمفاهيم النقدية، في حين هناك بيئات أخرى تصنع هذه المفاهيم؟.
 
سياقات كبرى
يشير الفنان الدكتور كاظم نوير إلى أن الإنسان كائن سياقي، فطرائق العيش أو الأفكار التي حوله هي من تنتج هذه النصوص الإبداعية أو هي التي تبعده عن بعض الممارسات النقدية، إذاً البيئة أو الحاضنة أو السياقات هي التي تولّد المفاهيم والمعايير والنصوص، ويمكن التدليل على ذلك في فحص النصوص المنتجة في زمن واحد وأماكن متعدّدة أو مكان واحد وأزمان متعدّدة، فالإنسان يتكوّن أساساً من موروثات داخلية ضاغطة مع موجّهات فكرية وقيمية من خلال مكوّنات الثقافة التي يتعامل معها بوصفه إنساناً أو مبدعاً، فاللغة مؤثر وضاغط والسياق الاقتصادي مؤثّر وضاغط، وهكذا السياق السياسي والسياق الديني، وطريقة التربية الاجتماعية والبيتية مؤثّرة وهكذا.. لكن مع هذا نحتاج إلى أن نتساءل: هل يمكن أن تختفي الممارسات النقدية والفلسفية؟ لا أعتقد ذلك، لا تختفي، بل تتوارى خلف ممارسات ونصوص أخرى لأنّها من صميم العمل الثقافي والحضاري للإنسان، بل هي ممارسة إنسانية قد تأخذ أشكالاً مختلفة، قد تظهر في الأمثال الشعبية أو الأقوال الساخرة وهكذا. إذاً الممارسة الثقافية تتجلى بأشكال مختلفة تتبع السياقات أو العلامات الكبرى التي تحتوينا، أو العلامات التي تشكلنا ونحن نشكلها.. 
 
العلاقة مع الأشياء
ويرى أستاذ الفلسفة في كلية الإمام الكاظم الدكتور حيدر دوشي أنَّ لكلِّ نشاط فكري وظيفة، وإذا ما قلنا أنَّ الفلسفة والنقد الذي هو أحد أهم أدواتها، تشبه العلوم والفنون, من حيث أنها تنشأ في مرحلة من مراحل تطوّر المجتمعات، لتفسير تجربتها, أو تأويلها والتعبير عنها, لتعكس وعي الإنسان بذاته, وبالعالم من حوله, فإنَّها تستمر في البقاء أو تنمو, أو تتطوّر طالما ظلت قادرة على إنجاز هذه الوظائف في حياة المجتمع.
وهذا ما نراه في المجتمعات المستقرّة- كما هو حال المجتمعات الغربية- تكون العلاقة بين الإنسان والأشياء واضحة يمكن اقتناصها بالعقل عبر المفاهيم، حيث العلاقات منظمة وفقاً للقوانين والمحاكم وأحد الأوصاف التي أطلقها الفيلسوف (كانت) عن العقل هي القاضي، أما في المجتمعات غير المستقرة- كما هو حال أغلب مجتمعاتنا الشرقية- تكون العلاقة بين الإنسان والأشياء علاقة حسية، تعبّر عنها المشاعر والأحاسيس بصور شعرية أو أدبية.
وهذا ما يظهر في رد فعل إنسان كل مجتمع مما ذكرناه مع ما يواجهه من مواقف، فلو واجهت شخصاً ما في مجتمعنا مشكلة يكون أحد أبرز ردود فعله صياغتها بصورة أدبية (مثل الشعر بشقيه الفصيح والمحكي- أو قصة دينية أو أدبية) للتعبير عنها. أما في المجتمعات المدنية فيتم اعتماد السبل القانونية واللجوء إلى المؤسسات الحكومية.
يبقى أن نقول إنه يمكن لمجتمعات على درجة متدنية من التحضر أن تواصل حياتها بغياب الفلسفة, ولكن المجتمعات التي تريد أن تبني مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية من دون فلسفة تربط بين مختلف جوانب حياتها, وتحلل مشكلاتها, وتنفد أهدافها وتوجهاتها ووسائلها, إنما تسير في طريق هدر جهودها وأهدافها وطاقاتها.
 بيئات متسائلة
ويبين الأكاديمي الدكتور حيدر ديكان أنَّ ثمّة إرثٌ فلسفي يُتكأُ عليه في البحث والتحليل والاستقراء والاستدلال، يُعد منهلاً عذباً للبيئات التي اعتادت وتعمّقت فكراً وتساؤلاً حيناً، وشكاً وترقباً حيناً آخر، في حين أنّ هناك بيئاتٍ تنأى بنفسها عن البحث والكشف والاستدلال مكتفيةً بنصوص إبداعيةٍ ووجدانية وانطباعيةٍ تمارسُ الاحتكاك السلميّ مع الفكرِ والعقلِ والتساؤلِ، تأسيساً عليه أنّ البيئة الأولى التي ترفض الإذعان للمسلمات باحتجاج عالٍ ومنطقٍ استدلالي حتماً تنتج عقولاً ناقدة وفاهمة ومشكّكةً وصولاً إلى الحقيقة الكامنة، أما البيئة التي تنتج نصّاً إبداعياً انطباعياً تحيلُ نفسها إلى ثيمات جمالية مكتفية برونق الفكرة وبهائها وإضاءتها بعيداً عن النقد والشك والتشكيك والتساؤل، ويبدو أنّ البيئة الأولى هي نتاجٌ غربيّ تتبرعم فيه المفاهيم إجراءً وتطبيقاً وتنظيراً، أما الأخرى هي نتاج شرقيّ لا تحرّكُ ساكناً ولا تسبح عكس التيار.
 
سلطات مهيمنة
وبحسب الناقد الدكتور عباس آل مسافر، يبدو أنَّ هناك انفصالاً بين صناعة أو خلق التفكير الفلسفيّ وبين المنجز الثقافي/ الأدبيّ بكلِّ اشتغالاته، وربّما تتدخل العوامل الانثروبولوجيّة والسوسيولوجيّة والاقتصاد والسياسة أحياناً  في توجيه بيئة ما إلى الاغتراف من بحر الفلسفة، في حين تتصحّر بيئات أخرى وتكون منتِجة فقط للنص الإبداعي الخالي من الملامح الفلسفيّة، مع أنَّ تراثنا العربيّ قد يكون استثناءً من هذه النظرية بسبب القطيعة بينه وبين الراهن.
وقد توجد عوامل عديدة تسهم دائماً في خلق البيئة المعرفيّة والبيئة الحاضنة للمقولات الفلسفيّة والنظريات النقديّة التي تؤصّل للأفكار والمفاهيم الفلسفيّة والحقول العلميّة المجاورة للفلسفة والمنطق، ومن هذه العوامل، بل من أهمها، وجود الديالكتيك وحضور الحرية في الكتابة والممارسة النقديّة، وكما توجد بيئات منتجة للفلسفة توجد ايضاً إلى جانبها بيئات أخرى تجتر ما يطرح حتى لو كان غير ملائم لأطروحاتها وعقائدها وطريقة تفكيرها، والخط الفاصل بين البيئتين، الولادة والعاقر هو الخط الفاصل بين المدنية والبداوة.
مضيفاً: وقد يكون للسلطة المهيمنة في البيئات أيضاً تأثيرها الفعّال في الإنتاج المعرفيّ ونوعيته وآلية تسويقه للآخرين، بل فرضه إذا اضطرت أحياناً؛ فمنظار السلطة الأيديولوجيّ للأمور قد يحقّق إنجازاً في بث الفكرة الفلسفيّة في مشاريع تنويريّة أو قد يحفّز نصّاً تعبوياً يخدم مشاريعه فقط.
 ويختتم الباحث ليث عبد الرحمن حديثنا قائلاً: لا يمكن عزل الحراك الثقافي عن الفضاء الاجتماعي المتولّد منه أساساً، بيد أنَّ طبيعة المجتمع بمعنى مدى تعصرنه أو تمدينه والإرث الشفاهي له سوف يكون له التأثير الآخر الكبير، ويمكن أن نأخذ البعد السياسي كعامل مهم آخر؛ لا سيما في ما يتعلّق بموضوع الحقوق والحريات، ولا يمكن إبعاد التأثير الطقوسي الديني عن هذا الموضوع، فكلّ هذه الأمور مجتمعة هي التي تعطينا مفتاحاً لتفسير الكثير لهذه الظاهرة.
ويؤكد عبد الرحمن أنَّ غياب المفاهيم الفلسفية والنقدية في فضاء ثقافي معين، ولا سيما في العصر الحديث، يترافق دائماً مع بروز القيود السياسية والاجتماعية، لكن هذا لا يمنع الكتّاب والمفكّرون من الإنتاج الإبداعي، وقد يحتوي هذا المحتوى الإبداعي على إشارات كثيرة لمعارضة السلطة والقيود المفروضة، ولكن بشكل مستتر يأخذ شكل الوصف الأسطوري والتاريخي كمنحى سياسي معارض فيتم تناسي المفاهيم الفلسفية- النقدية لأنَّها ليست الحاجة الملحّة داخل الفضاء الثقافي.
وعلى العكس منها، فإنَّ ظهور الدراسات النقدية الفلسفية يترافق مع الانفتاح السياسي ومدى اندماج المؤسسات التعليمية مع العولمة والدراسات الحديثة، لكنَّ غياب المفاهيم الفلسفية النقدية في فضاء ثقافي معين، يشير إلى طبيعة القيود المفروضة على الفضاء الثقافي ولا يشير إلى خلل أو مشكلة في التقليد الثقافي لهذا الفضاء.