أطفال للبيع وآخرون عند مكب النفايات الاحتضان بصيص أمل لحياة طبيعيَّة

ريبورتاج 2022/04/17
...

  د. سماء الزبيدي 
  تصوير: خضير العتابي
ما زلت أذكر جارنا سلام الذي كان والداه يمتلكان محلا صغيراً، نتردد عليه لشراء الحلويات، كلما توفرت لدينا نقود، سلام كان وحيداً، ومدلل تلك الأسرة، ولم يكن له أخوة، إذ ضمه والداه إلى بيتهما الصغير فأضاء حياتهما، وعلى الرغم من التطور والانفتاح الذي يعيشه العالم في الألفية الثانية والتغيرات التي طالت كل جوانب الحياة، لا يزال موضوع التبني أو ضم الأطفال إلى أسر بديلة موضوعاً شائكاً يثير الجدل في المجتمعات العربية عامة والمجتمع العراقي بشكل خاص، والكثير من الأشخاص يتذمرون من الأطفال المشردين وينبذون المنحرفين منهم، محملين الحكومة مسؤولية احتوائهم وتقويم سلوكهم، ليكونوا أفراداً أسوياء خلقياً واجتماعياً في جو نفور منهم وتحميلهم ذنباً اقترفه ذووهم. 
الاحتضان حلاً
عندما كانت تذكر أسرة سلام كثيراً ما كنا نسمع تلك العبارة (هذا مو ابنهم) ولم تشكل هذه الكلمات فضول أطفال صغار حتى كبرنا وأصبحنا ندرك معنى ذلك، نشأ ذلك الطفل وحيداً يحمل معه تلك العبارات التي كانت جارحة وتثير الكثير من التساؤلات في ذهنه، لم يكن له ذنب سوى أن والديه تخليا عنه منذ ولادته لأقاربه بالاتفاق ليعيش حياة أفضل من إخوته بسبب ظروفهما المعاشية المحدودة، وفي بعض الحالات قد لا يوفق الشريكان في إنجاب طفل يكمل تكوين الأسرة ويقوي رابط الزواج بينهما، فيكون احتضان طفل يتيم حلاً بديلاً لهذه المشكلة، إلا إنه يواجه تحفظاً من معظم أفراد المجتمع، إذ يتحجج البعض منهم بالدين وحرمة ذلك فيه، وحول ذلك بيّن لنا الباحث الإسلامي الشيخ حسام البغدادي بأن كفالة اليتيم ورعايته أمر لم ينهَ عنه الدين الإسلامي بل حث عليه، وإن ما يتحفظ عليه بالفعل هو تسجيل مولود معروف النسب باسم أبوين آخرين، كون ذلك يحدث إشكالاً في قضايا اختلاط الأنساب ومسائل الميراث، ومسألة حق الزواج وشرعيته، أما من الجانب الأخلاقي والعرف الاجتماعي قد يعلق البعض بأن هذا الطفل سيكبر ويكون رجلاً غريباً في البيت أو تكون طفلة ستكبر لتصبح امرأة ناضجة، ما يسبب مشكلات لا يحمد عقباها، وعلق على ذلك الشيخ البغدادي بأن الشخص السليم الذي يتربى في أسرة سوية أخلاقياً، من المستبعد أن ينظر نظرة محرمة لامرأة ربته على أنه ابنها أو العكس، وكذلك بالنسبة للرجل، ومع ذلك فإن الحشمة والانتباه إلى السلوك هو أمر تعرف به الأسر العراقية حتى مع أبنائها الذين من أصلابها.
 
شخصيات عدوانيَّة
صار سلام رجلاً يفضل العزلة وعدم الاختلاط وامتنع عن الارتباط وتكوين أسرة حتى مات وحيداً في ذلك البيت الكئيب بعد أن بلغ الخمسين من عمره، وعرف بموته جيرانه بالصدفة، تاركاً تساؤلات كثيرة حول، إذا   كان ضمه لأسرة بديلة رحمة به أم عبئاً عليه، على الرغم من أنه عاش مدللاً بينهم وحظي برعاية لم يتمتع بها لدى والديه بالدم، ويمكن أن نتصور قسوة المجتمع مع مجهولي النسب الذين يحاصرون بنظرات انتقاص وألقاب جارحة وخادشة للكرامة من دون اقتراف أي ذنب، فينشؤون منبوذين بين أفراد المجتمع، ما يولد منهم شخصيات عدوانية ناقمة على المجتمع، ويحاولون إفراغ غضبهم عليه واعتباره مسؤولاً عما يحدث لهم، وفي محاولة لاحتواء هذه الشريحة تحاول الدولة العراقية إيواءهم في دور تأهيل توفر لهم أبسط متطلبات العيش والتعلم، أما عن أوراقهم الثبوتية فأفادنا المقدم عزيز ناصر، مدير إعلام شرطة بغداد والناطق الرسمي باسم هيئة رعاية الطفولة بأن "من ولد منهم في العراق يحصل على الجنسية العراقية بدرجة تختلف عن الجنسية الأصلية الممنوحة على أساس حق الدم، ويحدد له اسم ثلاثي واسم أم بعد استحصال موافقة القاضي من قبل المحكمة، بحسب قانون الجنسية العراقية والأحوال المدنية العراقي، في محاولة لتسهيل عيشهم حياة طبيعية قدر المستطاع".
أسر بديلة
إن عملية ضم هذه الشريحة إلى أسر بديلة تحل الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية وتخفف من المعاناة، وتنير حياة أسر حرمت من نعمة الإنجاب،  وقد نظم المشرع العراقي الأحكام والقواعد الخاصة بالضم في قانون رعاية الأحداث رقم (76) لسنة 1983 النافذ حالياً، وأفرد له الفصل الخامس من الباب الثالث من القانون المذكور، ورغم ذلك فإن البعض يجده قراراً من الصعب الإقدام عليه والسير لإكمال خطواته، خوفاً من ظهور أهل الطفل فجأة ومطالبتهم به، أو عدم تقبل ذويهم له، والخوف من المشكلات التي تعيق تسجيله باسمهم، وبهذا الصدد أوضح المحامي علي العيداني أنه بإمكان الزوجين بعد الحصول على الموافقات الرسمية، وتوفر الشروط التي نص عليها القانون العراقي فيهما، تسجيل مجهول النسب باسمهما، بعد استحصال موافقة المحكمة لاستخراج أوراق ثبوتية له، أما بخصوص الجانب الشرعي الذي يقلق الكثير فأفاد البغدادي بأن هناك قاعدة فقهية تسمى سد الذراع، ويمكن نسب الطفل غير معروف النسب إلى متكفليه على أن يبلغ بذلك في سن الإدراك. 
ومن الناحية الإنسانية والنفسية أشار الباحث النفسي، ومؤسس البيت العراقي الآمن لرعاية الأيتام هشام الذهبي إلى أن "ذلك يمكن أن يشعر الطفل بالضياع ويجعله يعيش فجوة في المشاعر والانتماء، والأفضل أن ينشأ كفرد من الأسرة، وكأي طفل طبيعي ينشأ بين أبويه".
 
مواليد للبيع
بين أسر تبحث عن طفل تضمه إليها لتكمل المعنى الفعلي للأسرة، وأبوين يحاولان إشباع غريزة الأمومة والأبوة، يشهد المجتمع حالات لأطفال تركوا وحيدين عند مكب النفايات أو على أبواب المستشفيات مع رسائل موجعة من ذويهم تفيد بعدم قدرتهم على تحمل أعبائهم، ووصل الأمر ببعض الآباء للمتاجرة بفلذات أكبادهم على منصات التواصل الاجتماعي بعرض مواليدهم للبيع مقابل مبالغ مالية، مستغلين مشاعر الناس، ومحاولين إثارة مشاعرهم، وعن ذلك بيّن المقدم عزيز ناصر، مدير إعلام شرطة بغداد والناطق الرسمي باسم هيئة رعاية الطفولة بأنه "لا يمكن لأولياء الأمور التخلي عن أبنائهم مهما كان، ومن حقهم عليهم حسن التربية والإنفاق، ولا يمكن تسقيط الجنسية العراقية عنهم أو نسبهم إلى آخرين بدون دليل ينفي أبوتهم"، وأكد المحامي علي العيداني أن الآباء الذين يبيعون مواليدهم أو يجبرونهم على العمل دون السن القانونية وبالإكراه يقعون تحت طائلة المادة (1) من قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم (28) لسنة 2012، وتقع عليهم عقوبة قد تصل إلى السجن المؤبد.
 
دور الإيواء
في وقت يبحث آخرون عن طفل يمكن أن ينقذ بيوتهم من الانهيار ويدخل الحياة إليها من جديد، ما زال الجهل وقساوة القلوب والظروف تدفع بعض الأسر إلى إيداع أبنائهم في دور الإيواء، وقد يشجع بعضهم الآخر على ذلك بحجة عدم القدرة على الإنفاق والتربية، ففي حادثة تداولها الباحث هشام الذهبي في صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، أب تخلى عن أبنائه الثلاثة، وتم ضمهم إلى البيت العراقي الآمن، وبعد مدة زمنية جاء الأب وظن القائمون على الدار بأنه جاء لاستعادة أبنائه ودمجهم مع الأسرة، إلا أنهم فوجئوا بأنه قدم مع أخيه ليودع أبناء أخيه أيضاً في تلك الدار لما توفره لهم من مستلزمات العيش المادية والنفسية، في وقت يؤكد فيه الذهبي أنه يطمح إلى إغلاق جميع دور الإيواء ودمج الأطفال مع أسرهم أو أسر بديلة، لينشؤوا في أجواء أسرية طبيعية، تنتج منهم أفراداً صالحين وطبيعيين.