ما الذي فعلته السياسة بحياتنا الثقافيَّة؟

ريبورتاج 2022/04/23
...

   صفاء ذياب
  تصوير:  نهاد العزاوي
لا يمكن فك ارتباط الثقافة عن الشأن السياسي بأيِّ شكل من الأشكال، فالثقافة بيئة تتأثر بما حولها، إن كان من خلال انتماء المثقفين والأدباء والفنانين، أو بما يمكن أن ترسمه السياسة نفسها من خط للثقافة التي تريدها في بلدٍ ما.
فمنذ أربعينيات القرن الماضي، شكلت السياسة خطوطاً واضحة في بنيتنا الثقافية، ابتداء من المد الشيوعي الذي جعل الكثير من الأدباء والفنانين حينها يرسمون توجهاتهم على خطى الأدبيات الشيوعية، وصولا إلى الخمسينيات والستينيات، حتى اعترف أحد الأدباء بأنهم لم يلتفتوا إلى المناهج النقدية والمفاهيم الحديثة إلا مؤخراً بسبب انتماءاتهم الأيديولوجية، الأمر نفسه بالنسبة للستينيات ودخول أدبيات حزب البعث على الساحة الثقافية، والصراعات التي لم تتوقف بين الشيوعيين والبعثيين من جهة، وبين المستقلين من جهة أخرى.
غير أن سقوط هذا المد الأيديولوجي لم ينتهِ مع سقوط النظام البعثي، بل خلقت أيديولوجيات جديدة تتحكم في السياقات الثقافية، فنياً وصحفياً وإدارياً، وبدأت سياسة الدولة بلعب دور مغاير بعد هذا التغيير، حتى إنها اتهمت بتهميش ما هو ثقافي مقابل ما هو ديني، وبذلك تم اختلاق أيديولوجيات جديدة في ثقافتنا العراقية.
وهنا نتساءل بعد ما يقارب العقدين على هذا التغيير: كيف نلمس تأثير السياسة على الشأن الثقافي عراقياً؟
 
تكميم الأفواه
يشير الشاعر والمترجم سهيل نجم إلى أن السياسيين العراقيين عامة، وعلى مدى عقود طويلة، ينظرون إلى الثقافة بريبة وتحفّظ نظراً لما يخشونه من دور المثقف في كشف ما يحاول السياسيون اخفاءه عن الناس بطرقهم الملتوية التي يبرع فيها إعلامهم الموجّه في التضليل والتغطية على الفساد وانعدام الروح الوطنية. أما ما يحصل منذ عقدين وحتى الآن فهو الأنكى والأشد، لا بل صار الأمر مضحكاً مبكيّاً، فحين يتحدّثون عن الثقافة والتعليم صار من المعلوم أنَّهم ينوون لا محالة إلى التجهيل والتخلف، إنَّهم يفهمون بالتأكيد أنَّ الثقافة والعلم سيجعلان الناس يحسنون التفكير وليس من السهل تعبئة عقولهم بالأكاذيب والتمويهات التي سعوا إلى ترسيخها في تحطيم البنية الاجتماعية إلى بنية هشّة متأسّسة على المحاصصات السياسية الطائفية بحجج مضلّلة لحماية الهوية، في حين أنَّهم يشيدون ممالك شخصية وأسرية ولا ينال أتباعهم من الجماهير الغفيرة غير الحصرم.
ويضيف نجم: ثمَّة إرهاب حقيقي يمارس لتهميش الثقافة والوعي الاجتماعي وكثيراً ما يتجلّى العداء باستخدام العنف والتصفية الجسدية ضد المثقفين، ولا سيما المحتجون على التردّي العام، كما أنَّ هنالك سعياً واضحاً لجعل المثقف مذلولاً وتابعاً أو مكموم الفم والقلم وأبسط دليل على ذلك فقر الميزانيات المخصّصة للشأن الثقافي التي قد لا تعادل حتى مصروفات الإيفادات لواحد فقط من المسؤولين.
 
تهميش معلن
ويؤكّد الشاعر عباس السلامي أن الشأن الثقافي في العراق لم يحظَ بأيّ اهتمام ملحوظ خلال العقدين الأخيرين بما يتناسب والتغيير الكبير والمهم الذي طرأ على النظام السياسي والتحول المفاجئ من الشمولية والدكتاتورية إلى فوضى الديمقراطية، فمن المعروف أنَّ للفعل الثقافي ذلك الدور الفاعل الذي تستند إليه كل تطلعات الناس، التي تأمل من خلاله أن يتبنّى المثقفون ما تطالب به تلك الجموع من حقوق في التربية والتعليم والصحة والخدمات، وفرص العمل، والعيش الكريم، وإزالة مظاهر العنف والتسلّط والتهميش، فحصل العكس وهذا مردّه إلى عدم الاستقرار السياسي في العراق، فقد عمدت السلطات في الحكومات المتعاقبة على عدم الاهتمام بالثقافة، بل وأصرّت على تغييب دور المثقف في المشاركة والمساهمة في الفعل السياسي الذي من شأنه العمل على تحقيق مطالب الناس، لهذا تأثر الشأن الثقافي بالسلب، بعد أن صار حال المثقف بعد 2003 لا يقل سوءاً عمَّا قبل هذا التاريخ، وصار المثقف يتوارى خوفاً من القتل والترهيب أو الشعور بالإحباط أو اللاجدوى، نتيجة تهميشه، وشحة دعمه، وتغييب دوره عن سابق قصد.
 
أصوات متغيّرة
ويتحدث القاص عبد الزهرة علي عن الفروقات بين الثقافة التي هي نسغ الجمال والحياة، والسياسة التي تبحث في قيادة المجتمع، فإذا كان السياسي ابن ثقافة وجمال ومحب لتغيير صورة الواقع إلى غد أكثر إشراقاً وسعادة فإنّه يوظّف مرجعيته الثقافية والسياسية إلى وعي يرشد المجتمع نحو ضفاف الغد الأفضل، أما إذا كان باحثاً في دهاليز مكانته السلطوية والنفوذ فإنّه ينبش في قمامات الطائفة والقومية والنعرات العشائرية كي يسوق الرعاع.
في السبعينيات من القرن الماضي، حيث المسارح تنتشر في شوارع بغداد، المسرح الوطني، مسرح الستين كرسي، مسرح الفن الحديث، مسرح الطليعة وغيرها الكثير حتى أصبح تأبّط الجريدة أو الكتاب من متمّمات الأناقة للشباب، أما السينمات وأضواؤها الساطعة التي تضيء شوارع الرشيد والسعدون امتدت إلى مدينة الثورة وعلاوي الحلة، وأضحى المجتمع العراقي من طقوسه الاعتيادية ارتياد أحد هذه الأماكن فرادى وجماعات وأسر بكاملها، لأنَّ السياسيين في ذلك الوقت آمنوا ببناء إنسان جديد يتطلّع إلى الحرية والجمال، لكن عندما أحس بعضهم من الظلاميين باهتزاز كراسيهم نتيجة الوعي المتصاعد للمجتمع ومعرفته بحقوقه وأحلامه، ارتدَّ وأجهض تلك المرحلة (حين يوضع الساسة على كراسي السلطة تظهر نقاط ضعفهم بسهولة) بحروب عبثية وملاحقة كل ما هو جميل، وانحدر الوضع حتى وصل إلى إحياء التراث الميّت الذي يسند كرسي الحكم من خلال الحملة الإيمانية، الآن وبعد التغيير ومنذ عشرين عاماً جاء سياسيون لا يعرفون ما الثقافة، فهدّمت بنايات وصروح ثقافية ومسارح وسينمات نتيجة الغزو الأميركي ولم يلتفت إليها أحد، لأنَّهم يعرفون قوة تأثير هذه الأماكن التي تنمّي العقول، وهم يعون دور الثقافة في تغيير المجتمع، فتعالت مرَّةً أخرى أصوات الطائفية والعشائرية.
 
هوية متنوعة
وبحسب الناقد عمار عزت، فإن الثقافات المختلفة في أيِّ مجتمع تخضع إلى جملة من الإكراهات والضغوط: سياسية واجتماعية ودينية وأيديولوجية وغيرها، فتنشأ نتيجة لهذا الضغط خلخلة في مجموعة القيم الراسخة في المجتمع، بغية إحلال قيم بديلة تتناغم والتحوّلات التي تشهدها المجتمعات ومنها المجتمع العراقي الذي شهد أعنف تحوّل في عام 2003، من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن رؤية الحزب الواحد التي فرضت رؤاها بشكل قسري على المجتمع وأجبرته على العيش في بوتقة مغلقة صلدة تؤطّرها أيديولوجيا غير قابلة للتفتيت أو التصدّع أو الحوار، إلى رؤية أحزاب متعدّدة ذات طبيعة أيديولوجية وتصوّرات واعتقادات مختلفة، منها ما هو ديني وعلماني، ومنها ما هو قومي فرضته طبيعة المجتمع بتنوعاته المختلفة، وبعمقه الثقافي الذي لا يمكن أن يختزل بمكون أو طائفة أو عقيدة واحدة.
مبيناً أنه مع غياب تصوّر كلّي متفق عليه بين الأحزاب والتيارات الحاكمة على طبيعة الهوية العراقية وشكلها، نلاحظ تشظّي المجتمع إلى هويّات فرعية متصارعة، فقد ادخلت السياسات الخاطئة البلد لعقدين من الزمن في أتون صراع مادي ومعنوي نتلمّس أثره في شخصية الفرد العراقي وفي ثقافته التي تميل إلى الانحياز الكلّي حدَّ الصنمية إلى هذا الطرف أو ذاك بدون تغليب للمصلحة العليا للبلد، وبدلاً من أن تؤسّس الديمقراطية لرؤية منفتحة على الآخر تستوعب الجميع، نجدها ظلّت حبراً على ورق في دستور عقيم، لهذا فقد أثرت السياسة تأثيراً كبيراً في طبيعة المجتمع وثقافته، فأزاحت مفاهيم لتحلّ محلّها قيمها الجديدة ذات الطابع الديني والقومي المنغلق بنزعته الإقصائية لكلِّ ما هو مغاير في المجتمع، فغيّب الفن والأدب والرياضة وكلّ ما يمت إلى الثقافة بصلة، كما غيّب العمق التاريخي للحضارة الرافدينية وحلّت محلّه ثقافة الانغلاق والعنف والإقصاء.
 
منصات مؤدلجة
ويرى القاص ميثم الخزرجي أنَّ حيازة المتن الأدبي على اختلاف أجناسه الجمالية وعدّتهِ الفنية هي صورة مشتقة من الواقع المعاش بكل ما يتضمّنه من أزمات سياسية ومخاضات مجتمعية كانت وما زالت تجترح عوالم مغايرة تبعاً لفترات زمنية تبوّب بمحدّدات أيديولوجية أو معتقدات فكرية لها متبنياتها ورؤاها المنهكة، واقعاً أنَّ للمشغل الجمالي فضاءه الرحب واتجاهاته غير المكبّلة أو المسيّرة وفقاً لأجندات سلطوية تحاول أن تعزّز ماكنتها الإعلامية ومفاهيمها النسقية لتجيّر سمة الجمال وما تعيّنه من مرتكزات تعنى بهاجس المؤسّسة وسياقاته العامة لصالح نهج سياسي معين، هنا نحن إزاء مشكلة غاية بالأهمية، على الأديب العربي المنتج أن يعي أنَّ سلطة النص المعمّدة والمهمومة بانكسارات إنسان هذا العالم كفيلة بأن تعطي دستوراً له قيمه ومطارحاته المعرفية، شريطة ألا تخضع لمصدّات الفرض التي تبشّر بعلل كثيرة أولها ابتعاد الكثير من الأدباء الحقيقيين عن الحاضنة الأدبية، كونها لا تتماشى والسياق العام المصاحب لطبيعة الأديب الجدلية والرافضة لذلك فضلوا مرافقة الهامش والانزواء بعيداً على ألا يكونوا من دعاة التحريض أو التمجيد أو التبجيل لفئة أو جماعة تسعى إلى أدلجة المشهد وأن يروّجوا لمشاريعهم التنويرية بدون الانضواء لمنصات مذّيلة.
 
رسالة إبداعية
ويبين القاص زهير بردى أنَّ ما يحدّد علاقة المثقف بالسياسة إطار الوعي والعلاقة الجدلية المعقدة، لكن لا بد من أن نجد تأثير المثقف على المجال السياسي. فالسياسية هي التسلّط أو الارتباط بالحكم وتصارع قوى وإرادة، أما المثقف فإنّه يتبنّى الجمالي في إنتاجه الفكري والإبداعي، ويرسم علاقة مترابطة مع العالم محاولاً التغيير وتحديد رسالته الإبداعية المحمّلة بالحرية والجمال والمبادئ، فالثقافة رسالة إنسانية أولاً وقيم وحياة، وبذلك يمكن أن تتجاوز الأيديولوجيات. فالأنشطة الثقافية الإبداعية تشمل جميع الممارسات الإبداعية والأشكال الفنية، فالمثقف يتحاشى مواقف التيارات الأيديولوجية وهيمنة المفاهيم الفكرية المؤدلجة.