«الصباح» تعبر الخط الوهمي الفاصل بين الكرخ والرصافة

ريبورتاج 2022/04/27
...

 محمد إسماعيل
 تصوير: رغيب أموري
القادم من ساحة الخلاني، يقطع ساحة مكتظة بالبسطات تحاصره نداءات الباعة: «إتلث حاجات بألف» ليصل إلى جسر السنك، ماراً بجامع الخلاني، ذي الأسيجة العالية المطرزة بآيات من القرآن الكريم، تحاذيها شوارع متفرعة باتجاهات عدة، منها ما يؤدي إلى الشورجة وما يذهب إلى السنك وآخر يعيد المشاة إلى الباب الشرقي، وأبرزها الشارع المتصل بالنفق ومنه إلى شارع السعدون، اخترت منها «الذاهب إلى السنك» لأنه ينتهي بالجسر موضع اهتمامي في هذا الصباح الأربعائي الشفيف.، تقطع فلكة الخلاني مصدات كونكريتية تمنع المخالفات، كعامل مساعد لشرطة المرور الذين يسيطرون بجدارة على الزحام.
عند الطرف المقابل لجامع الخلاني تبدأ علامات الشورجة، برغم كونها ما زالت بعيدة، ثياب معلقة على جدار وزارة التجارة السابقة، التي هجرها استيراد السيارات والأجهزة المعمرة، والأغذية وبيض المائدة والأدوية التي يتم استيرادها بالتنسيق مع وزارتي الزراعة والصحة.
 
غناء
وقال الفنان قاسم السلطان: «نسمات الربيع الهابة من دجلة، على جسر السنك، تبعث بي الرغبة في الغناء» مؤكداً: «الأجواء تبدو جميلة من أعلى الجسر».
 
بسطات
واصلت السير مراوغاً البسطات باتجاه الجسر، مروراً بباعة خردوات وأحزمة وعطور، على الأرصفة المقابلة لمحال بيع زيوت السيارات وزينتها والأوبشنات المكملة لتقنية الصناعة الحديثة، تقريباً معظمها واقيات و»جاملغات» وأبواب مسلفنة في الباكيتات وقطع غيار لأبدان السيارات. تنفذ إلى سمعي صيحة: «تنزيلات بألف دينار» يبدو أن الألف هو السقف الأعلى للأسعار، تنزيلات تنزيلات تنزيلات، أدوات
احتياطية. 
على الجهة المقابلة محال للشؤون الزراعية، سماد وكاشطات الثيل وقاطع أغصان وعلاج دواجن وإعلانات عن فرق لمكافحة حشرة الأرضة والجرذان.
خلفي سيارات من نوع الكيا، ينادي سائقوها: «علاوي بياع» و»علاوي ساحة عدن، كاظمية» وقليل من يصيح: «دورة، الجسر المعلق، حي جبور» وما زلنا على الجهة اليمنى بالنسبة للصاعد من الرصافة.
حمامة على الرصيف تلف رأسها بجناحيها، آمنة أو شبه ميتة، يعبرها السابلة ماشين في طريقهم يتحاشونها ربما مطمئنة أو تنازع الحياة. 
خط ينسرح صعوداً من ساحة الخلاني إلى جسر السنك الذي لاح الزحام على جانبيه، الجسر يصل الساحة في الرصافة بالصالحية في الكرخ.
خضرة
أسفل الجسر، عند اليابسة في شارع الرشيد، قبل أن تغوص أعمدته الكونكريتية في الماء، كتبت عليها عبارات مارقة ودعايات تجارية ساذجة، تجاورها نفايات وروائح مكروهة.  
وضعت إحدى قدمي عليه، وقد بدأت مقتربات الجسر بسياج أخضر، لماذا الجسور كلها خضر الأسيجة؟ سؤال أجاب عليه المهندس يحيى كاظم: «الجسور التقليدية، ذات أسيجة خضر، لكن الآن مع الحداثة عبر المهندسون هذا الشرط، الذي كانوا يلتزمونه من باب اقتران الماء بالخضرة، كما تقول العرب، الماء والخضراء والوجه الحسن».
 
نفاد
ثمة منفذ إلى جسر السنك من شارع الرشيد، يمكن لمن يروم الصعود أن يرتقي درجاً كونكريتياً لولبي التصميم، يضع المرء على رصيف الجسر مباشرة، من دون تعب يذكر ولا شعور بنفاد الوقت.
المطاول للجسر يجد نفسه على بعد متر أو أقل، حذو عمارة أنشئت كراجاً، وأهملت بعد 9 نيسان 2003 ثم عاد مالكوها لتفعيل دورها المديني ككراج..
خلال فترة الإهمال صارت تلك العمارة الكراج، مرتعاً للسكارى والمتشردين و بنات الليل والمتسولين، وفئات اجتماعية ضالة غير منتظمة، لا شرعاً ولا قانوناً، لكن عاد مالكوها وهي الآن تكتظ بالسيارات  «المبندة» تبيت ليلتها أو تكتفي ببضع ساعات من النهار.
 
يمين
تحت الجسر شارع الرشيد، من يمين الصاعد نحو قمة الجسر، مغادراً الرصافة نحو الكرخ، قبل الانسلاخ عن «هذا الصوب» يلوح معهد الدراسات الموسيقية في بيت تراثي، تملكته وزارة الثقافة والسياحة والآثار، تناظره بناية المديرية العامة للاتصالات والبريد والبرق والهاتف، التابعة لوزارة الاتصالات.
عمارة الاتصالات في كل حرب تقصف، منذ الثمانينيات، وحتى الحرب المقبلة، لا سمح الله، إنها تلوح لنا من بيوتنا في نهاية «الجوادر» مدينة «الثورة – الصدر حالياً» وبيتنا في الجوادر يبعد عن موقع «الاتصالات» في شارع الرشيد حوالي خمسة عشر كيلو متراً وربما أكثر؛ لأنها عالية جداً، الأعلى قبل أن تتطور بغداد وتنتصب فيها أبنية شاهقة، غطت على سواها ورفعت حاجزاً بيننا وأقاصي بغداد السبعينية.
 
شاطئ
لفت عالم الباراسيكولوجي د. علي جاسم، إلى أن: «قوى جمالية ترفع الجسور عن أمواج النهر، تساعد مهندسي البناء والإنشاءات» مفيداً: «الجسور وجسور بغداد تحديداً وجسر السنك على وجه الخصوص، صار جزءاً من ذاكرة العراقيين، بل أحداث سياسية واجتماعية ما زال الناس يتذكرونها، تربطهم بجسر السنك، كما لو أنه كائن أسطوري حي، يشاركهم قضاياهم».
 
صخب
الوقوف على جسر السنك يضع المتأمل أمام كورنيش اتخذ منه المتعهدون كراجات للسيارات على مد البصر، من هذا الجسر إلى ما بعد التالي عليه وإلى الأبد، فثمة متعهدون يتاجرون بجماليات المدينة.
ما دام الإنسان في ارتقاء فوق أمواج «الشط» تبدو طيور النورس مستولية على الماء، تنحدر معه في منبعه من الشمال صاباً في الجنوب، تحلق بضعة سنتمترات عن النهر، لتوكر ثانية في مرح ينساب بهدوء تبعاً لسكون النهر هذا الصباح، صادف اليوم استقرار في دجلة، على غير صخبه المعتاد.
 
سحر
مقابل الجرف، أنظر إلى الأسفل، فأرى أشنات منقوعة من مزابل الشاطئ إلى النهر، رماد حرائق ليلية، تشي بأفعال جرت تحت جنح الظلام، تساءلت عنها، فعلمت من مصادر موثوقة، أن ليل النهر يشهد سحراً أسود..
أغصان شجر متيبسة وأزبال بعضها منسابة نزولاً إلى النهر، ورصيف صخري بعيد مهمل، يشعر المرء بالخسارة الوطنية لعدم استثماره، بل تركه يلحق ضرراً بصفاء المياه.
طيور النورس على شكل مجاميع تختفي ومجاميع تظهر كلما سبحت مبتعدة ترجع كرة أخرى إلى نقطة البداية، تسترسل تبعاً للأمواج، وتعود فالنهر وديع في هذا اليوم الربيعي الذي يتوسط بين نهاية الشتاء وتلويح مقدم بشائر الصيف.
ما زلت أقترب رويداً من المنتصف، تحتي الماء كأنما يتحرك في ضحالة عمق الشط التاريخي الموروث مما قبل السومريين، نسبة العكرة في مياه دجلة عالية جداً تبلغ أربعة آلاف في المئة؛ لأنه بعد تكريت يبدأ الجريان في أرض غرينية منجرفة، ساحباً معه طيناً كافياً لتعكير الصفاء عند بغداد نزولاً إلى الجنوب حيث يصب في شط
العرب.
 
ظل
عند أعلى نقطة في ارتفاع الجسر، مسافة تتجاوز المئة متر، وقفت فرأيت ظلي منعكساً على الماء، يؤمن فيئاً للأسماك!
لكوني مصاباً بفوبيا الارتفاعات وفوبيا الماء وعقد متعددة أخرى، تجعلني أرتعد جبناً عند تخيل نفسي سباحاً يقفز من هذا الارتفاع إلى تلك الأعماق، فأموت من ذعر وخوف لسببين؛ الارتفاع الهائل والماء، لكن التأمل ساحر يفتن المخيلة بأعذب الأشعار وأكذب البطولات.
جهة الرصافة تظهر مدينة الطب ووزارة الصحة والبنك المركزي وعمارات أخرى تنتصب في محراب الجسر.
ما زلنا نتحدث عن الرصافة، ريثما نعدو المنتصف؛ كي نتحدث عن الكرخ.
 
الكرخ
الرصافة عبارة عن زحام في المنظور التشكيلي، تناظرها الكرخ ببناءات مشيدة.
وأنا أعبر الخط الوهمي الفاصل بين الكرخ والرصافة، بدأت الحديث عن «ذاك الصوب» الذي أصبح الآن مع تقدمي في الخطوات «هذا الصوب».
لاح فندق «المنصور ميليا» ومحافظة بغداد، ووزارة الثقافة والإعلام قبل 2003 يجاورها مسرح الرشيد، دائرة السينما والمسرح، وخلفهما شقق سكنية، وفي المدى تومئ وزارة العدل مستهل شارع حيفا.
 
سلام
ينتشي الشاعر كريم راضي العماري، بالعبور على جسر السنك، متوجهاً إلى مسرح الرشيد لحضور مهرجان أو عرض سينمائي، منوهاً: «اقترن السنك عندي بالثقافة الميدانية، بالمشاهدة والأداء والمشاركة بقراءة قصيدة في حفل على خشبة مسرح الرشيد أو في وزارة الثقافة، قبل أن تنتقل من رأس الجسر إلى شارع حيفا، إنه عنوان لثقافة 
السلام».
 
نخر
يلامس النهرُ الرصيفَ الصخري، ما يعني أن التشوهات الجمالية أقل نخراً في ضلع الكرخ من الرصافة، ما زالت النوارس في ذهاب ومجيء تحت الجسر، تتفرق بعده وتعود إلى ما قبله، كأنما تسابق الأمواج وتشاكس المجرى.
تبدو أمام العين قوارب غواصي شرطة النجدة النهرية التابعة لوزارة
الداخلية.
مقارنة بين ما خلفنا وراءنا من جسر السنك، وما تبقى أمامنا، نجد الرصيف الكونكريتي يوازي الشارع المعبد بالقير، «سايدان» ذهاباً وإياباً تفصل بينهما قواطع بلاستيكية على شكل أنابيب عمودية، بارتفاع متر، مثبتة بقوة وسط شارع الجسر.
الانتقال من يمين الجسر إلى يساره، يتطلب انعطافاً بمحاذاة جامع الرحمن، رجوعاً من حيث قدمنا، لكن عبر الجهة المقابلة.
الجسر ينتهي بتقاطع الجامع وشقق سكنية، فتقهقرنا عائدين بالاتجاه المعاكس، من حيث أتينا، ثمة قصب بارتفاع يعلو الجسر نفسه.
تلال ترابية مصطنعة، تسبق بيتاً يحمل اسم «عيون المها» التراثي، وهو على حد علمي ملك شخصي لصديقي الأديب والفنان خسرو الجاف، وعلى امتداد الشاطئ الفندق الرئاسي التابع لنقابة الصحفيين يليه مقر النقابة نفسها.
يتوسط الجسر بين الجانبين بائع عصير، يبكر في استقبال الصيف، صائحاً: «عصير بارد» ولم أرَ أحداً يشتري منه؛ إذ لم تقتنع الناس تماماً بلملمة الشتاء أذيال البرد
بعد.
 
ضباب
مر تحت «السنك» قارب يسبح من جسر الجمهورية، وتعدى مستمراً بينما أتجاوز منتصف طريق الرجوع.
يخيم الضباب على بغداد، من جهة المشرق، برغم قوة الشمس التي توشك على خلع ثياب الشتاء وارتداء حلة الصيف.