من الإصلاح إلى التنوير

آراء 2022/05/19
...

 علي المرهج
 
يؤيد دعاة الإصلاح فكرة «وجود ازمة» و»خراب» في المجتمع، وإلا لما دعوا للإصلاح، فلا بدَّ إذن من تحديد هذه الأزمة وشكل الخراب، وسبل حلّها على كل المستويات.
يحمل الإصلاح دلالة إيجابيَّة لأن أصحابه كل في مجاله يطرح مجموعة رؤى لتشخيص الأزمة وطرح الحلول عبر في وضع مجموعة «تنظيمات» أو خطوات عملية مدروسة يعتقدون أنها مطلوبة من أجل تحسين جزئي تدريجي للأوضاع، بمعنى أنه فكر مضاد للثورة، وإن كان معنى الثورة يحمل نزوعًا إصلاحيًا، إلا أنه يحمل في الوقت نفسه دلالة إنقلابية جذرية تلغي القديم وتقيم قطيعة معه، بينما نجد الإصلاح يعيد إنتاج وصياغة القديم ويضيف له ما استجد او ما يتطلبه العصر في ضوء تطوره، والإصلاح في الفكر العربي يعني الجهد المتواصل الذي قامت به الحضارة العربية للتقريب بين معاييرها وقيمها من جهة، وواقعها الراهن من جهة 
أخرى.
يُعرّف الإصلاح في المعاجم العربية بأنه ضد الإفساد وفي هذا الاطار نجد محمد عابد الجابري يربط الإصلاح في القرآن بإزالة ما شاب العلاقات بين الناس من شوائب مثل قوله تعالى (فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم) (الانفال/ 1) وقوله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما) (الحجرات /9).اذ نجد محمد عابد الجابري يذهب الى أن معنى الإصلاح في الإسلام لا يحتمل الا معنى الإصلاح الاجتماعي (محمد عابد الجابري، في نقد الحاجة للإصلاح).
لا أظن أن الإصلاح في الإسلام فقط، إصلاح اجتماعي، إذ يمكن القول إن الدين الاسلامي قد كرّس مفاهيم الإصلاح بمعظم أشكاله، فما كان النبي محمد (ص) إلا مصلحًا ثار على قيم وتقاليد عصره على عدة مستويات منها المستوى الاجتماعي، حينما كان مجتمع الجزيرة العربية مجتمعًا متفرقًا إلى قبائل عدة تتصارع في ما بينها، فآلف بين قلوبهم، منطلقًا من مبدأ التوحيد الإلهي الذي قامت عليه الدعوة الإسلاميَّة، والذي في أساسه هو محاولة لتخليص الإنسان من عبودية الإنسان، فانتقل مجتمع الجزيرة العربية من فرقته ومن عصبية القبيلة إلى عصبية الدين كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون. 
أما على المستوى الاقتصادي فالآيات من سورة الشعراء مثال واضح قوله تعالى (و مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) (سورة الشعراء)، وفي موقع ثانٍ اذ يخاطب شعيب قومه (وَلَا تُطيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) (سورة الشعراء)، وكذلك (يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَارَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)) (سورة هود).
يُقابل الإصلاح في الفكر العربي الحديث في كثير من الأحيان مصطلح التحديث، والذي يعني الجهد الذي بدأ في العصر الحديث لإقحام مكتسبات الحضارة الجديدة في الواقع اليومي العربي، مع ترك مجالي الاخلاق والدين خارج مجال الاقتباس والتأثير»، والإصلاح يبدأ أولاً بالفكر، لا سيما إذا استطاع دعاته أن يقنعوا الناس ويبينوا ضحالة الفكر السابق ويكشفوا عن عقمه ولا جدواه، بتعبير «هاشم صالح».
يرتبط أيضا مفهوم الإصلاح بمفهوم التنوير ولا ينفصل عنه، فالجذور كما ذكرنا سابقا تعود إلى حركة الإصلاح الديني في أوروبا القائمة على قول المسيح «أنا نور العالم، من يتبعني لن يمشي أبدًا في الظلمات، وإنما سيكون له نور الحياة «( يوحنا12:8, 5:9) فكانت هذه الحركة هي بمثابة العودة الى الأصل أو بناء علاقة مباشرة مع الذات الإلهية.
في القرآن الكريم جاء قوله تعالى «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ» (النور/35)، فالدين مرتبط بالتنوير، والعالم حينما يسوده الظلام، ظلام الجهل والاستبداد والتخلف.. الخ لا بدَّ من أن يكون هناك موقف إصلاحي يحاول تنوير الناس وتخليصهم من الظلام والظلاميين، لا سيما الذين يتخذون من الدين ستارًا ليعيدوا المجتمع الى عصور غابرة.
كلا النزعتين الإصلاحية والتنويرية حاولتا إعطاء مكانة للعقل في مقابل هيمنة الغنوص والسحر والشعوذة، وإن ارتبطت نزعة الإصلاح بالتوفيق بين العقل والإيمان، بينما نجد نزعة التنوير تحاول أن تعطي مساحة أكبر للعقل في مقابل الإيمان، هذا في أوربا، أما في النزعة الإصلاحية التي سادت الفكر العربي على يد الطهطاوي والافغاني وآخرين، فهي وإن كانت ذات بعد ديني إلا أنها برأينا أعطت مساحة للعقل أكبر مما أعطته حركة الإصلاح الديني في أوروبا، وإن كانت نتائجها ليس كالنتائج التي حققتها حركة الإصلاح الديني في أوروبا التي كانت سببًا رئيسًا من أسباب بروز النزعة الانسانية، التي جعلت الانسان محور الكون وأن العالم خُلق لصالحه بعد أن كانت النزعة التقليدية تُوظف الإنسان لصالح الميتافيزيقا (اللاهوت)، اما مع دعاة الإصلاح والتنوير، فقد انقلبت هذه النزعة وتحول الاهتمام من الاهتمام باللاهوت إلى الاهتمام بالانسان او توظيف اللاهوت لصالح الانسان، أو هذا ما يترتب في ضوء رؤيتهم الاصلاحية، وهي رؤية تلفيقية تستهلك المنتجات والخطابات الغربية وتفكر بعقل ماضوي 
سلفي.