ساعاتُ العراق تفتقدُ دقاتها

ريبورتاج 2022/05/21
...

 ذوالفقار يوسف
 تصوير: نهاد العزاوي
جلس أحمد في أحد المتنزهات ينتظر وصول حبيبته آية، وما أن طال انتظاره شد بصره لساعة قد نصبت في ذلك المتنزه، قال في نفسه "ما أعظم الوقت عندما يشاركنا موعد اللقاء"، ولا بد لها أن تأتي الآن، كانت الدقائق ثقيلة المرور على روحه، ولكن عقارب تلك الساعة لا تتحرك، تيقن أحمد بأن حبيبته لن تأتي، عندما اقترب من الساعة ليكتشف ذلك، فأخرج جهاز هاتفه الذكي من جيبه ليعرف الوقت الصحيح من خلاله، ليحدث ساعة المتنزه ويقول "عرفت الآن ماذا يعني توقف الوقت".
 
 
وكما ينتظر أحمد كنا ننتظر نحن ذلك الذي سيلتفت إلى معالم العراق ومتنزهاته وساعاته الخربة والمتوقفة عن العمل، فما هو المانع في أن نكون كباقي الدول في الاهتمام بالوقت وأدواته، أن نسير بطرقات ولا نحتاج فقط إلى النظر لنعرف الوقت، أو ليشدنا منظر جميل لإحدى الساعات المنصوبة في إحدى الساحات، او حتى لنوثق ذكرياتنا مع دقات إحداها.
 
قراب فقط!
وتعددت الأمثال والحكم والأقاويل التي تعطي فكرة عن أهمية الوقت بالنسبة للبشر، فهو ذلك الملك الذي جلس على عرش القوة، ليحدد وقت أقدارنا من خلال دقاته، إلا أن في بلدنا العظيم قد هلك الملك، تكسر، توقف نشاطه، وانعدمت قدرته، لنجد أن الساعات التي كان لا بدَّ أن تكون معلما عريقا يحدد تاريخ العراق قد تحطمت او سرقت او تعطلت بسبب الإهمال، لينتهي الوقت كقراب يخلو من سيفه القاطع.
الباحث بالشأن التاريخي أسعد الخالدي يحدثنا بهذا الشأن ويقول: اذ أردنا أن نعطي الوقت نكهته التاريخية فهو اصل الماضي والحاضر والمستقبل، فمنذ بدء اختراع الساعات اعتمد الناس كليا في تنظيم أوقاتهم على تلك الآلات منذ أن صنعت، ورغم تعدد أشكالها وأنواعها وطرق عملها، إلا أن هدفها الأول إعلام الناس بالوقت، فقد تجدها مائية وبخارية وكهربائية، وتلك الميكانيكة، وأخرى قد صنعت ليحركها الانسان، ولكن يبقى هدفها هو الوقت، لذلك فان التاريخ يرتبط ارتباطا وثيقا، مع الساعة والوقت والزمن، وكل منهما يحدد من منظور أهميته.
 
ساعات ولكن!
ويحدث عند مرورك بإحدى ساعات العراق القديمة ان يشدك منظرها حتى وان كانت محطمة او متوقفة عن العمل، أنه سر جاذبية الوقت للبشر، فساعة القشلة تحاول جاهدة اتمام عملها، كما ساعتا المحطة في منطقة العلاوي اللتان يبلغ عمرهما اكثر من 70 عاما يناشدان المارة للاهتمام بهما واعادتهما إلى العمل، ساعة مرقد السيد ادريس (عليه السلام) هي الأخرى توقفت في العام نفسه، التي عادت به إلى العمل، العديد من الساعات التي توقفت عن عملها تفتقد صوت دقاتها كما نحن.
الصحفية نرمين المفتي تحدثنا عن مشهد مؤلم واجهته عند مرورها بإحدى الساعات في محافظة كركوك تلتقط صورة لها من خلال هاتفها، لتوثق هذه الحقبة المريرة بعثتها لنا لنكون شاهدين على توقف الزمن، لتقول بحسرة "سُئل الروائي الايطالي البرتو مورافيا: ماهي أجمل ساعات العمر؟ ليجيب بأنها الساعات التي لا أشعر فيها بالزمن. تكمل المفتي حسراتها بأسف وتقول: وأسفاه على مورافيا فإنه مات ولم يكن يعيش في العراق، ليرى كم لدينا من الساعات المتوقفة، يا لحظه فها هنا قد توقف الزمن، كان لزاما عليه أن يعيش في العراق ليستمر بحبه وكتاباته، فالزمن لدينا لا يتغير. لتكمل حديثها بتساؤل، هل تعبت هذه الساعة من الزمن الذي لا يتغير عندنا أم تعبت منا؟.
 
ايميلي تحتاج إلى الوقت
ونكمل نكبة الساعات المحطمة في عراقنا الذي تتفجر فيه الميزانيات كما يتفجر النفط من ارضه، فساعة الزهور في ساحة متنزه الزوراء هي ايضا مهملة ومتوقفة عن العمل، وساعة باب المعظم التي كانت تعمل بواسطة التيار الكهربائي الذي نفتقده دائما اختفت دقاتها كلما انقطع التيار الكهربائي.
الحاج عذب العزاوي (81 عاما) يتذكر أيامه مع الساعات، فيقول: كانت تنتشر حينذاك ساعات الجيب، وهي اكسسوار مهم لكل رجل عراقي يبحث عن الأناقة في مظهره، كان توقيت هذه الساعات يكون عبر الإطلاع على الساعات التي تنتشر في ساحات ومعالم بغداد، أنا لا أتحدث عن الوقت لوحده، إن الدقات التي نسمعها في ذلك الوقت لها سحرها، لم تكن تدق فقط بل تحدث من يسمعها باصالة وعراقة المكان والمدن، ولكن هيهات فقد أتى الزمن ليجعلنا نفتقد كل ذلك السحر.
يضيف العزاوي "وانا في هذا العمر أجد بأن الوقت هو الموت، ومتى ما ألاحظ إحدى الساعات المتوقفة أشعر بحزن كبير، لأنه يذكرني بنهاية حياتي، هناك شاعرة أميركية تدعى إيميلي ديكنسون لم تنشر لها الا القليل من قصائدها، لأنها ماتت ولم يمهلها الوقت لذلك، أتذكر لها أبياتاً كلما مررت بساعة محطمة اومتوقفة عن العمل إذ تقول:
لم أملك الوقت للحب ولكن
لأنني ملزمةٌ ببعض الجهد
كان ذاك الكد البسيط
الذي يرافق الحب
كبيراً بما يكفيني.
بينما يأتي تاريخ الخسارات الذي لا يحسب فيه الوقت، ليختم بقول الشاعر العراقي احمد الصافي النجفي وهو يقول:
هذه الساعة في دقتها 
قرّبت نفسيَ من نكبتها
تسقط الساعات من أعمارنا 
والتواقيع صدى سقطتها