رؤية تاريخية لمفهوم حقوق المرأة

آراء 2022/05/23
...

 حسن الكعبي 
في سياق تعاطيه مع المفاهيم المرحلة من فضاءات مغايرة يجري تمثلها وتبيئتها في الفضاء العربي، يؤكد المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري ضرورة التمثل الواعي للمفاهيم وتفكيك سياقاتها الانتاجية، ذلك أن المفاهيم ترتبط ارتباطا كبيرا بلحظاتها التاريخية وانساقها الايدولوجية وسياقاتها الاجتماعية بوصفها فواعل انتاجها، فمن شأن هذا التمثل ان يخلص الفكر العربي من اشكالية انتزاع المفاهيم من معاجمها اللغوية التي تدفع بالفكر إلى حيز الالتباس وسوء الفهم والتأويل
 
 ومن المفاهيم الملتبسة التي ينبه عليها المسيري هو مفهوم حقوق المرأة، الذي يرى أنه وضمن استعماله في فضاء التداول الغربي من المفاهيم الاقصائية للرجل، بوصفه مرتبطا بحركة النسوية التي تؤكد ثنائية مركزية المرأة وهامشية الرجل، والحال أن معالجة حقوق المرأة في التداول العربي يجب أن يتم ضمن مجاله الخاص وارتباطه التاريخي وانساقه الأيديولوجية، بوصفها فواعل انتاجية متغايرة في ظروفها وشروطها مع ظروف وشروط الفضاء الآخر، وفي سياق هذا الارتباط التاريخي لمفهوم المرأة يتناول المفكران ( محمد عابد الجابري ومحمد اركون ) مسألة حقوق المرأة في الفكر العربي، ضمن ظواهر مختلفة يجري في مجالها تهميش واستبعاد المرأة من حقوقها.
تقترن قراءة الجابري لمفهوم الحقوق بموضوع الحجاب وكون المرأة فتنة يجب ممارسة الحجب عليها، وذهب الجابري في إطار تفكيكه الابستمولوجي  إلى أن مسألة الحجاب هي نتاج انحراف في عملية التأويل للنصوص الأولى، التي نصت على قضية الحجاب، فالجابري يشير إلى أن آية الغض من الأبصار تتوجه إلى الرجل قبل المرأة، بدليل أن الآية القرآنية جاءت على هذا النحو (يا أيها الذين آمنوا غضوا من أبصاركم)، وهو خطاب واضح التوجيه لمجتمع رجولي، وهو ما يؤكد في تصورات الجابري أن الدلالات السائدة التي تتوجه إلى المرأة هي دلالات متنزعة من التأويل في سياقه الأيديولوجي الذي يسعى لان يحجب الدلالة الحقيقية في المستويات النصوصية الأولى، ويتابع الجابري مفهوم الفتنة في سياق تاريخي يستعيد حادثة الإغواء في قصة نبينا آدم وحواء (عليهما السلام)، حيث يشير إلى أن التأويل الأيديولوجي يبني على هذه الواقعة أحكام الفتنة بحصرها بالمرأة، بوصفها نموذجا للإغواء، في حين أن السورة التي تسرد هذه الواقعة تؤكد بوضوح أن الإغواء هو ممارسة تسري على جميع البشر من قبل الشيطان، وقد كان ضحيتها آدم وحواء على السواء، فمن المعروف أن الحادثة جاءت نتاج خروج ابليس عن طاعة الله، وتوعد الأول بإغواء البشر اجمعين. ولا توجد إشارة إلى أن بادرة الغواء كانت من حواء في الحادث القرآني ولذلك فان المرأة في تصورات الجابري مفترى عليها في العالم الذكوري. 
من هذا المنطلق فإن نزعة الجابري هي نزعة تصب في اتجاه تفعيل الحقوقيات الانسانية في الفكر العربي، أي أنها لا تعمل على اقصاء الرجل لصالح المرأة، كما في مشروع الحداثة الغربي،  وإنما إلى إدانة التأويل الفحولي في مستوياته الايديولوجية والعودة إلى النصوص الاولى واعادة تأويلها تأويلا حقيقيا، بعد أن تم تحريفها وبعد أن اسقطت عليها التأويلات الأيديولوجية. 
يلتقي المفكر الكبير (محمد اركون) في السياق ذاته مع الجابري، ففي كتابه (نقد العقل الديني.. من الاجتهاد إلى التأويل ) يرى أركون أن مسألة ميراث المرأة كما نص عليها القران بشكل واضح، قد تم تحريفها تأويليا في المجالات الاجتهادية لرجال الدين، الذين أعادوا ربط مسألة الميراث بالتمثيلات الجاهلية الفحولية، التي تعارض القرآن بشكل واضح، ولتبرير هذا التعارض فقد ابتكر رجالات الدين مفهوم (الناسخ والمنسوخ)، والذي يرى أركون أنه مفهوم تبريري صنع في معامل الأيديولوجيا الذكورية، والا فما معنى وجود آية (الكلالة) في القرآن – كما يتساءل اركون– دون العمل بها؟ تحت ذريعة أنها منسوخة، ويكشف اركون عن مفارقة في مجالات مفهوم الناسخ المنسوخ من خلال إشارته إلى أن رجالات الدين يشيرون إلى ضرورة التعبد بالآيات المنسوخة، ولكنهم في الوقت نفسه يحرمون العمل بها، وهو تناقض واضح يؤكد الدلالة الأيديولوجية في هذا المفهوم الذي يسعى أن يعطل أحكاما تمس حقوقيات المرأة. 
ورغم أن اركون يتابع تمثيلات هذا المفهوم اركيولوجيا إلا أنه لا يسمي الفترة لظهور المفهوم وهي الفترة العباسية، رغم أنه يشير إلى شخصيات ظهرت في هذه الفترة وكان لها الأثر في تدشين هذه المفاهيم، لكن تسمية هذه الفترة تخدم استنتاجات اركون حول أيديولوجيا المفهوم، فظهوره في العصر العباسي كان الأساس في قيام دولتهم في صراعهم مع العلويين، وذلك بالعودة إلى نظرية الصلب الجاهلية، التي تحرم ان ترث المرأة ابيها في حال وجود ابناء عم صلبيين له وهي نظرية تعارض القران، ولكنها في إطار مفهوم الناسخ والمنسوخ عطلت، وتم تبريها أيديولوجيا، ولذلك فإن العباسيين في إطار هذه النظرية يكونون هم الورثة الحقيقيون للرسول دون الزهراء وأبنائها من جهة، ومن جهة فإنهم شددوا على روايات كفر ابي طالب، لكي لا يتسنى لعلي وأبنائه أن يرثوا الرسول باعتبار أن ابي طالب في اطار نظرية الصلب بالامكان أن يرث، ولكن كفره يحول دون ذلك، ومن المجال العباسي دشن المفهوم الأيديولوجي الذي كشف اركون عن مستوياته، ولذلك فانه يذهب إلى ضرورة اعادة الارتباط بمفهوم حقوق المرأة في سياق العصر الكلاسيكي للاسلام وتعطيل التأويل التالي على هذه الفترة، وهذا ما يجعل اركون يلتقي بتصورات الجابري واستنتاجاته التي تصب في مجال ايجاد مفهوم حقوق المرأة والحقوق الإنسانية، بعيدا عن التطرفات التي سادت أغلب التصورات الفكرية في اقصاء الرجل بوصفه سلطة فحولية في مجال استعمالات الفكر 
العربي.