خجل.. كتمان.. استهانة لماذا نرفض الطب النفسي

ريبورتاج 2022/05/31
...

 آية ميكائيل
لم يكن الوقت يمر، الانتظار يثقل الوقت، صف طويل في إحدى العيادات الطبية، لا شيء يجعل سارة تتحمل الزمن هناك، فتارة تلوذ به للفرار من يوم طويل مكتظ بوجوه لا تعرفها، تتصفحهم لتجعل الوقت ينتهي، تلتقط عيناها صحيفة يحملها رجل كبير في السن، كانت الخبر واضحا وهو يتصدر رأس الصفحة: "احصائية صادمة عن حالات الانتحار في العراق!".
استطاعت سارة أن تستعير هذه الصفحة من الرجل المسن، لتستكمل قراءة الخبر "حيث بلغت حالات الانتحار خلال العام الجاري ما يقارب 800 حالة أكثر من العام الماضي بـ100 مرة"، رفعت سارة عينيها إلى الأفق متسائلة: لماذا لم يذهبوا إلى الطبيب النفسي؟.
مسببات
كثيرا منا يعاني من أزمات نفسية وعصبية حادة جاءت نتيجة معاناه آلاف، بسبب الحروب والبطالة والتربية الخاطئة للأطفال، والخوف من المجهول، وإلى جانب مئات الآلاف من الأسر، التي تعاني من العنف الأسري فلا غرابة، إذا كان  العراقيون يتحدثون مع أنفسهم همسا أو بصوت مرتفع، أحيانا أو في الشارع وهم يسيرون في الطريق، فهذا امر طبيعي نراه كل يوم.
ومن المخاوف الشائعة في مجتمعاتنا العربية هي استشارة الطبيب النفسي، بسبب نظرة المجتمع للمريض وكأنه انسان مجنون، وخوفاً من هذه النظرة لا يفكر المريض بمراجعة الطبيب النفسي. ليكتمل نصاب الأمراض النفسية الشائعة في العراق منها الكآبة، والقلق والهلوسة، والانفصام والنسيان، وعدم التركيز، وصولا إلى الجنون، يقول قيس بن الملوح (قالوا: جننتَ بمن تهوى فقلت لهم.. ما لذة العيشِ إلا للمجانين). فهل كان هذا البيت بداية مقاطعة الطبيب النفسي؟. 
 
"أم عباس السحّارة"
لعلّك سمعت بذلك الارتباط بين الدين والصحة النفسية، فإن شكوت من ضيقٍ نفسيّ أو شعرت برغبة بالموت او اليأس، أو حتى بالاكتئاب والضياع، فيأتي صوت النصح بأن ترجع إلى الله وأن تحسّن علاقتك بدينك. إلا أن البعض من الأصوات توجهك نحو الذهاب إلى الشخص الفلاني يقرأ لك بعضا من آيات الله تشفيك. أما الغالبية العظمى فلديها اعتقاد قوي، خصوصاً المرضى باضطرابات نفسية وأقاربهم، بأن هناك قوى خفية تسببت بعلّهم مرضى نفسيين، وهم يتفقون على ذلك، ويذهبون بذلك إلى قصد السحرة والمشعوذين للتخلص من هذا المرض، ليأتي دورهم في الاستغلال وغش الناس بطرق خسيسة لتحصيل الأموال منهم، الكثيرون لم يفكروا بالطب النفسي وفوائده، لكنهم حتما قد فكروا بـ (أم عباس السحارة!). 
 
فقدان أليم
يتكلم (ح،م) (33 عاما) ويقول: "قمت بزيارة الطبيب النفسي بإحدى العيادات الخاصة وذلك لمعاناتي من الصدمة والقولون العصبي والمعدة، حيث إن علاجهم ليس بالدواء فقط، بل يتطلب أن يكون هناك علاج لتحسين الحالة النفسية بالدرجة الأولى، ضغوطات الحياة وفقداني لوالدي وأخي في أحد الانفجار كان مسببا لهذه الامراض، وجعلني أعاني من صدمة لمدة طويلة، ليكون للطبيب النفسي بعد ذلك أثر كبير في خروجي من هذه الحالة".
 
علاقةٌ مفتوحة
وتختلف مهنة الأطباء النفسيين عن بقية التخصصات الطبية الأخرى بالعديد من الأمور، فنحن نجد أن الكلام هو أول العلاج وأهمه في الوصول إلى سبب المرض وايضا لعلاجه، إضافة إلى الكرامة الانسانية، التي لا يجب أن يتخطاها الطبيب، والتزام السرية، وهذا ما بينته نور القيسي طبيبة مختصة بالطب الباطني، لتكمل حديثها بان "العلاقة بين الطبيب النفسي والمريض يجب أن تكون سليمة تملؤها الثقة والمصداقية والتفاهم والموضوعية، لتأتي بعدها أهمية احترام جنس المريض ونبذ العنصرية والتمييز العرقي".
تستدرك القيسي حديثها وتقول: "هناك قلة من المرضى يلتزمون بالذهاب إلى الطبيب النفسي، منها حالات الوسواس القهري، أو اولئك الذين مرّوا بصدمة عاطفية او فقدان بسبب الموت، الا أن هناك حالات اخرى ترتبط اجتماعيا بالمريض كانعدام الثقة والتوازن الاجتماعي، وما وجودنا كأطباء إلا وهو علاجه بالطرق الممكنة، التي تتيح له أن ينضج عقليا وأن يكون قادرا على مواجهة مشكلاته بنفسه، إذ أن هناك البعض من الحالات تتطلب أخذ الأدوية المضادة للاكتئاب، بالرغم من المحاولات للابتعاد عن العمل بها، والاكتفاء بالعلاج التواصلي عن طريق التوجيه والإرشاد".
 
كلنا مجانين!
يقول كيرت فونيغوت "هذا ما أجده مشجعًا بشأن مهن الكتابة إنها تسمح للمجانين بأن يبدوا أكثر عقلًا من العقل"، لذلك نحن قوم أقرب للمجانين، لأننا نبتعد عن القراءة والكتابة وتدوين آلامنا وتطلعاتنا وأحلامنا، مشكلاتنا، التي ما أن كتبناها حتما سنجد لها الحلول، وهذا ما أكده لنا المدوّن على مواقع التواصل الاجتماعي مرتضى  (36 عاما)، فهو قد واجه أزمات عدة من اليأس والتوجه نحو عالم الخلاص من الحياة، اذ يقول: "لم أجد منفذا غير التواصل عبر الهاتف مع احد اقربائي، فهو طبيب نفسي مقيم في إحدى الدول الأوروبية، لذلك ارشدني إلى هذا الحل، وما أن بدأت بتطبيقه وجدت العلاج الذي يشفيني من كل ما أمر به، الأن، أدوّن أوجاعي، أكتب ما يخالجني من مشاعر وهموم ومصاعب، لأجد بأنني قادر على التحمل والاستمرار وعدم الاستسلام.
 إن الطبيب النفسي هو وسيلة لخلاصك فهو متخصص، وكما تتوجه إلى طبيب العيون عندما تشعر بضعف بصرك، لا بدّ من أن تقصد الطبيب النفسي ما أن يؤلمك عقلك".
يختم مرتضى هذا التحقيق ويقول لنا: "يا أخي هو منو بالعراق عقله مرتاح، المفارقة بس شلون يتحمل وما يستسلم".