تأملات مفتوحة في النفس والإنسان والحياة

العراق 2022/06/04
...

 جواد علي كسار
 
سبق لي أن ذكرت في مناسبة سابقة أن التراث الفكري والثقافي العام للسيد محمد الصدر، يتيح لنا مداخل متعددة في الإطلالة على منظومة الصدر، قراءة وتحليلا وتفكيكاً، بهدف استلهام المواقف وبناء الرؤى ومعرفة الآراء.
فإذا ما استبعدنا الكتابات التخصصية في الفقه والأصول وما يتصل بهما، تضع منظومة الصدر بين أيدينا المجموعات الفكرية التالية، كمادة نظرية للدراسة؛ موسوعة الإمام المهدي، موسوعة ما وراء الفقه، القرآنيات، ما كتبه وحاضر به وقرّر له عن الإمام الحسين، مجموعة الأسئلة والأجوبة والمحاورات، خطب الجمعة، وأخيراً "الإشراقات".
ثلاثية «الإشراقات»
أقصد بـ"الإشراقات" مجموعة من ثلاثة كتب كبيرة نسبياً تقع في نحو ألف وثلاثمئة صفحة من الحجم الكبير (الكتاب الأول: 452 صفحة، الثاني: 490 صفحة، الثالث: 337 صفحة) صدرت بتحقيق دقيق وطبع أنيق عن مؤسّسة المنتظر، سنة 1435هـ / 2014م.
رصدت هذه المجموعة ما وقع بين أيديها من تراث الصدر من الرسائل والمقالات، والتقديم لبعض الكتب وتقويم لبعضها الآخر، لكلّ واحد منه أصله الموثّق في أوراق الصدر وما تركه في دفاتره، مضبوطاً بالصفحات والتواريخ الدقيقة، كان بعضه قد نُشر على حياة المؤلف في عدد من المجلات والنشرات، مثل مجلة "الأضواء" و"الإيمان"، وبعض منها لم يُنشر إلى الآن، لاسيّما ذلك الجزء الذي له صلة بالأدب والنقد الأدبي، وقد شغل الجزء الأكبر من الكتاب الثالث.
على سبيل المثال يزوّدنا الجزء الثالث من هذه المجموعة، بملامح عن الوجه الأدبي للصدر قاصاً وناظماً وناقداً، وناشراً يتحفنا بصور فنية لحالات نفسية وإنسانية، ربما كان أرقاها- في الأقلّ بالنسبة لي- المقطوعة النثرية التي جاءت، تحت عنوان "الآمال القاتلة: أفكار ميّت حديث الدفن" (إشراقات، الكتاب الثالث، ص 271 فما بعد). دون أن أنسى الإشارة أيضاً إلى مقطوعة "شفتان من الماء" (المصدر، ص 263-267)، وإلى جوارها المناجاة التأملية المعنونة "أيها العقل" (المصدر، ص 249 - 252)، وأخيراً خطاب المراجعة والتقويم الذي كتبه على طراز محاورة داخلية بين محمد الصدر ومحمد الصدر؛ محمد الصدر النفس والذات، ومحمد الصدر الشخصية والكيان المعرفي والديني والاجتماعي، وجاء بعنوان "خطاب إلى المستقبل"؛ وبتأريخ مبكر جداً إذ تعود هذه المحاورة مع الذات، إلى عام 1961م (المصدر، ص 241 - 245).
 
مع هؤلاء
بالانتقال إلى النقد الأدبي يضعنا الصدر أمام رمزيات كبرى، فعلى مدار خمسين صفحة كاملة يمضي بجولة ماتعة مع توفيق الحكيم 
(1898 - 1987م) وسيّد قطب (1906 - 1966م) وطه حسين (1889 - 1973م) في كتابه عن أبي العلاء المعري، وعباس محمود العقاد 
(1889 - 1964م) في ما كتب عن ابن الرومي.
خمسون صفحة طافحة بالرؤى والأفكار، يعود تأريخ كتابتها بأجمعها إلى عام 1960م، تصلح أن تكون درساً مستأنفاً لطالب دراسات عليا نابه، وموضوعاً لأطروحة ماجستير، يمكن أن يستخلص لنا كاتبها نتائج طريفة، لاسيّما عن حاضرة النجف الأشرف يومذاك، وكيف كانت تتفاعل مع الكتابات النقدية الاجتماعية والأدبية والسياسية، ومن ثمّ كيف ساهم ذلك في بناء وعي هذه الحاضرة التأريخية، لقضايا المسلمين في العالم، وأثّر تالياً في المشاريع الحركية والفكرية التي انطلقت من النجف الأشرف.
عند وقفته مع الحكيم في "مسرح المجتمع" لم يتعاطَ الصدر مع المسرح كأداة للتسلية، بل التقط في نص الحكيم قدرته على دراسة أوضاع المجتمع وتشخيص عاداته الكريهة، والسعي قدر المستطاع إلى تلمّس الحلول.
وفي كتابه الآخر "يوميات نائب في الأرياف" أشاد الصدر ببراعة الحكيم في تحليل الواقع المأساوي للريف المصري، ولعب الحكام على بؤس الناس وجهلهم.
 
سيد قطب
من المعروف أنَّ لسيد قطب وجوهاً متعدّدةً، برزت معه في تأريخ من التحوّلات بدأت مع نشاطه في النقد الأدبي، ثمّ النقد الاجتماعي، ثمّ المنظومة الحركية التي أخذت به إلى الحاكمية والمجتمع الجاهلي، وبقية أركان "معالم في الطريق" قبل أن تقذف به إلى السجون، 
ثمّ إلى أعواد المشانق.
الحقيقة أنَّ النصّ الصدري الذي أمامنا وإن جاء متاخماً لشخصية سيد قطب بأبعادها المختلفة، إلا أنَّ التركيز فيه قد اتجه إلى كفاءاته كناقد أدبي. في البدء يُسجّل الصدر أنَّ النقد الأدبي عاش منفلتاً، لا يخضع لمنهاج ولا يتسم بتنظيم، ومن فضائل قطب ومناقبه تقعيد هذا النقد على أسس وأصول ومناهج، حين أعاد تأسيسه على نحوٍ من الدقة والتنظيم، فأخرجه من التراكم الكمي والاعتباط النوعي، إلى الانسجام ووحدة الرؤية والروية، مرتكزاً في ذلك كله إلى رؤية فكرية أعمق تتجاوز تخوم الأدب، إلى فلسفة الاعتقاد، إذ كانت العقيدة الإسلامية هي السند لسيّد قطب في ممارسة النقد الأدبي، والدعوة إلى الأدب الملتزم، المتجه لغايات رسالية، كما فعل مثلاً في كتابه "التصوير الفني في القرآن"، على حدّ ما أشار إليه الصدر.
المعري وطه حسين
في هذه الفقرة يبلغ النصّ الصدري واحدة من ذراه وغاياته القصوى، وهو يقارب بأسلوب المقارنة عبر التطابق والتماثل بين شخصيتي المعري، فيلسوف القرن الميلادي العاشر، وطه حسين فيلسوف القرن العشرين، انطلاقاً من العاهة المشتركة التي جمعت بينهما في الحياة، وفرّقت بينهما في المتبنّيات الفكرية والسلوك الشخصي، دائماً على حدّ نصوص الصدر، إذ يقول مفتتح استعراضه لكتاب طه حسين "مع أبي العلاء في سجنه"، ما نصه: "النظرة الحقيقية في هذا الكتاب، تنتج الاعتقاد بهذه الحقيقة الناصعة، وهي أنَّ مؤلفه لغز يحاول حلّ لغز، وفيلسوف يحاول فهم فيلسوف" (المصدر، ص 157).
ما كان يقصده الصدر من نقطة المعاناة المشتركة بينهما، هو: "اشتراكهما بآفةٍ واحدة" إذ كان كلاهما قد فقد نعمة البصر إبّان طفولته الباكرة، لكن مع فارق شعوري وفكري بينهما. فأبو العلاء المعري (363 - 449هـ) أخذ به فقدان البصر إلى التجهّم والعبوس والتشاؤم في الحياة، مع حدّة فكرية وقلق عقيدي، جعله منذ يومه وللآن في مظان قراءات متعارضة، ولا غرو وهو الذي أمضى أشواط حياته رهين المحبسين، العمى والبيت، والثالث ارتهان روحه إلى جسده. أما الثاني طه حسين (1889 - 1973م) فواجه محنة العمى بالكثير من الإيجابية وبقدر واسع من التفاؤل، فكان باسماً مستبشراً انفرجت له الحياة، ومنحته فرصاً كبيرة لم يحلم بها الكثير من المبصرين، ربما أعانه على ذلك كله انتماؤه إلى المجتمع المصري، وما تتسم به ثقافة هذا المجتمع من خصائص البهجة والانفتاح والميل إلى مواجهة النكبات والمحن، بالمزيد من المرح والسرور.
هكذا مضى الاثنان أبو العلاء وطه حسين رحلتهما، وهما: "يتناجيان ويتطارحان الحديث حول آفتهما المشتركة، وما تركته من أثر بليغ في فلسفتهما في الحياة. فنجد أنَّ فيلسوف القرن العاشر عابس مكفهر، يجد الدنيا شراً في شرّ، والحياة فيها ثقلٌ على ثقل، وينظر إلى الدنيا من خلال سجونه الثلاثة، متجهّمةً له عابسةً بوجهه.. أما فيلسوف القرن العشرين، فنجده ضاحكاً مستبشراً، تتسع ابتسامته كلما سمع صوت ذلك الشيخ.. وينفتح قلبه للنسيم الرطب، والهواء العذب، والأغاريد الجميلة، والعُرف اللطيف"، قبل أن يخلص الصدر إلى القول: "الواقع أنَّ الدكتور طه حسين وبوصفه مشتركاً مع أبي العلاء المعري في آفة واحدة، فهو إذن الأديب الوحيد الذي يمكن أن نعدّه أهلاً لدراسة أبي العلاء، ومعرفة نفسيته ونظرته إلى الحياة. وهو الوحيد الذي يمكن أن يجعل حلّه لهذا اللغز، حلاً مقبولاً ومصيباً كبد الحقيقة إلى حدّ كبير"، لأنَّ: "الكتاب لمن تعمّق به ليس إلا دراسة نفسية، للخواطر والمشاعر والآلام والآمال التي تدور في رأس ذلك الشيخ المسكين، متناقضة صاخبة"، (المصدر، ص 159 - 161).
 
إعادة التفسير
مع ذلك كله وبرغم ما يمحضه النص الصدري من مكانة لطه حسين في قراءة المعري، انطلاقاً من وحدة الآفة والمعاناة بينهما، إلا أنه يمتنع عن مجاراته في فرضية التفسير، وهو يلجأ إلى قراءة جديدة للفلسفة العلائية، بحسب تعبيره، حين يتساءل: "هل اهتدى الدكتور في سبر أغوار اللغز أو أنه تاه وضلّت به السبيل؟"، ليجيب قائلاً: "الظاهر أنه عرف شيئاً وغابت عنه أشياء كثيرة"، (المصدر، ص 162).
ينتقل بعد ذلك إلى تفسير حالة أبي العلاء أو ما يطلق عليها: "الفلسفة العلائية" عبر إعادة قراءة الظاهرة بعيداً عن المدخل النفسي الذي اختاره طه حسين وركّز عليه مهملاً بقية العناصر. فالسيد الصدر هنا لا يُسقط الجانب النفسي ولا ينكره، بل يتخطّاه لضم عناصر جديدة إليه يستكمل بها جميعاً إعادة القراءة والتفسير. وهو الطموح الذي عبّر عنه، بقوله: "لعلي أتوقف الآن إلى شرح نظرية من رأيي الخاص، تفسّر تناقض فلسفة أبي العلاء المعري"، ليعيد نسبة هذه الفلسفة بدءاً إلى النشاط المعرفي الواعي، والاختيار القصدي، وإلا فإن مثل المعري بذكائه الاستثنائي وقدراته المشهودة، لا يركن إلى اللاأدرية والإحباط النفسي، ولا يستسلم لبواطن اللاشعور في بناء قناعاته، 
وتكوين معتقداته".
 
الفلسفة العلائية
هكذا يضعنا النص الصدري أمام عملية إدراكية معرفية واعية، من فعل العقل والمنهج: "فالفلسفة العلائية حول المعتقدات الدينية، نشأت وترعرعت بين آراء المذاهب المختلفة، والأقوال المتضاربة" مما له صلة بالكلام والفلسفة وأصول الدين وحتى فروعه، ومن ثمّ نحن أمام: "آراء وأفكار استحدثها العقل الإنساني القاصر"، و"القاصر" في النص الصدري، هو وصف ينزع عن آراء المعري وغيره العصمة والتنزيه والإطلاق، ويتعامل معها كاجتهادات، مرجع قبولها ورفضها إلى الدليل والبرهان.
وما واجهه المعري وأدّى إلى اضطراب منظومته الفكرية، هو خلل منهجي بالأساس، يعود إلى ابتعاده في هذه المعارف عن مصدر الوحي، ما جعل: "الفلسفة العلائية تتيه بين الخضمّ الأكبر من الأباطيل والضلال، ولا تعلم أي طريق تسلك". وربما التمس الصدر له بعض العذر في ذلك، من خلال ملابسات عصره، وحجم التيه الناشئ عن الدعاية بين الفكرة وما يعارضها، والعقيدة وما يضادّها، وهكذا.
لذلك يبدي النص الصدري تفهّماً راقياً لأبي العلاء، محوره الإقرار بذكائه وفطنته ومهاراته العقلية، وقد وضعته جميعاً في موقع أرقى من عصره: "من الحق أيضاً لفلسفة أبي العلاء الحائرة، ألا تجد في أي دين من الأديان، أو أي مذهب من المذاهب ما يرضي فضولها، ويجيب عن سؤالها، ويشفي غليلها بصورةٍ مقنعة ومرضية". ليس هذا وحده، بل: "ومن حقها إذن أن تعترض على المذاهب والأديان، وتستفهم استفهاماً إنكارياً.. ساخرة منها منكرةً عليها".
هذا التشابك وضع المعري أمام مهمّة واحدة، هي العودة إلى عقله، والاستناد إلى اجتهاده: "فكان من الحق بعد كلّ ذلك، أن يستخدم أبو العلاء عقله الوحيد، وفكره المجرّد"، (المصدر، ص 165). ورحلة كهذه كان من الطبيعي أن تتمخّض عن رؤية مضطربة، تلابستها الأوهام والأضاليل، فاستحقّت وصف: "فلسفة شك وتردّد، وليس فلسفة يقين وجزم".
لقد كنت أتطلع بشوق بعد هذه المناقشات مع طه حسين ومن ورائه وعلى نحو أعمق المعري، إلى النتيجة الحاسمة ومعرفة رأي السيد الصدر بأبي العلاء، وهل يرميه كما فعل كثيرون بالإنكار والإلحاد؟، لم يدم الانتظار طويلاً عندما حسم الصدر السجال، بأنَّ المعري عاش الإيمان بالله، وكان هذا الإيمان هو الأساس العميق الذي ارتكز إليه المعري، وسط فلسفته الشكية واضطرابه المنهجي، مستنداً في هذا الإيمان إلى الفطرة والعقل معاً، اللذين يتمتّع أبو العلاء بمسكةٍ منهما، على حدّ تعبير الصدر نصاً، (المصدر، ص 166).
 
الحديث النفسي
من أعظم ما تركه لنا الكبار لاسيّما في العرفان والفلسفة، هي موسوعات الحديث النفسي يتقدّمها جميعاً "الفتوحات" لابن عربي، و"إحياء علوم الدين" للغزالي، و"تلبيس إبليس" لعبد الرحمن بن الجوزي، و"الأسفار الأربعة" لمحمد بن إبراهيم الشيرازي وغيرها كثير. فما يشدّ إلى هذه المدوّنات ليس الجانب المعرفي رغم أهميته وتميّزه، إنما الجانب الذاتي، الذي يدع النص مفتوحاً إلى عدد لا ينتهي من القراءة والتأويل، وهذا ما نراه بوضوح من الأمثلة التي ذكرناها والعشرات غيرها.
في ثلاثية "إشراقات" للسيد الصدر شيء من هذا القبيل، نلمسه في الأجزاء الثلاثة بأجمعها، لكنه أشدّ ما يظهر في القسم الأخير من الكتاب الثالث الذي بين أيدينا. فعلى مدار مئة وعشرين صفحة بالتمام والكمال، تتجلى أمامنا قطعات نفيسة من الكلام النفسي، الذي يصلح لقراءات مفتوحة وتأويلات مثلها، كما هو الحال مثلاً في نصوص: "النزول الذي لا صعود بعده"، و"ذكريات من فلسفة الصبا" إضافة إلى ما أشرنا إليه مطلع المقال، معضودة جميعاً بنصوص شعرية تؤدّي مع سابقاتها النثرية الغرض نفسه، كما هو الحال، مع مقطوعات: "الدرهم الضائع" و"القارب التائه" والأهمّ منهما مقطوعتا: "
أنا" ثمّ: "من أنا؟".
ركزت على الكتاب الثالث من هذه الثلاثية لأنني لم أرصد من أشار إليه، وتبقى لنا عودة مستأنفة إلى الجزأين الأول والثاني من هذه الموسوعة، في فرصة قادمة 
إن شاء الله العزيز.