الفكر الانثروبولوجي بين الأنساق والبنيَّة

آراء 2022/06/05
...

 د.عبد الواحد مشعل
تعود جذور الفكر الانثروبولوجي الى ما قبل الميلاد عندما ظهرت ملامحه على يد مؤرخين ومفكرين، كان لهم إسهام تاريخي في الفكر الإنساني أمثال المؤرخ الإغريقي (هيرودتس)، الذي وصف عادات وتقاليد بعض المجتمعات ومنها العادات والتقاليد والنظم الاجتماعية في مصر القديمة وغيرها، وقد كان ذلك الوصف بمثابة إشارات واضحة إلى فاعلية الفكر الانثروبولوجي، الذي يهتم بنظم العائلة والزواج والقرابة
 
 فضلا عن اهتمامه بالإنسان بصفته كيانا يمتلك قدرات معرفية خاصة انفرد بها عن باقي المخلوقات، لذا فإن الحديث عن الإنسان لا يقف كونه حيوانا ناطقا، إنما كيان اجتماعي طبيعي (فيزيقي) واجتماعي وثقافي، وكما ظهرت ملامح هذا الفكر عند (ابن خلدون) بعد الميلاد، حينما درس المجتمع العربي وطبيعة الصراع بين البداوة والحضارة، وكيف تشكلت الدولة، إذ تمكن الإنسان صاحب العصبية القبلية التغلب على  النمط الحضري، حينما وصل إلى مرحلة الضعف والانصراف إلى الملذات، فتفكك النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي في بيئته، معالجاً ذلك في دوره ميزة للتغير الاجتماعي، تنتهي بانهيار الدولة لتبدأ مرحلة تكوينية لدولة أخرى، مقررا أن عمرها لا يتجاوز مئة وعشرين سنة، لتنشأ على أنقاضها أخرى، وهكذا، إلا أن تبلور الانثروبولوجيا كعلم انبثق في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أصبح للفكر التطوري حظوة في المجال العلمي السائد آنذاك، حينما ذاع صيت النظرية التطورية (لجارلس دراوين) لتكون نقطة محورية في التطور العلمي في  الاختصاصات المختلفة، ومنها الانثروبولوجيا، على يد علماء مؤسسين أمثال (لويس مورغان وباخوفن وهنري مين ومكلينان)، متخذين من منطوق النظرية التطورية الانثروبولوجية تفسيرا أساسيا لتطور الحياة الاجتماعية من شكلها البسيط إلى شكلها المعقد، ضمن خط تطوري ارتقائي، وفي مسارات ثلاثة، اولها، المسار الاجتماعي المتصل بتطور نظم الزواج والعائلة والقرابة، وثانيها، المسار الاقتصادي أو التكنولوجي المتصل بتطور التقنيات من البسيط إلى المعقد، ثم مسارها الثالث، السياسي الذي يعني بتطور السلطة من شكلها البسيط في الرهط إلى العائلة إلى القبلية إلى المجتمع الأوسع، حيث التنظيم السياسي على نطاق كيان الدولة، وكل هذه المسارات تسير بخط ارتقائي متزامن، معتبرين تطور الإنسان محور هذا العلم، فكانت كتاباتهم تحمل عناوين تؤكد هذا الأمر، حينما انصرفوا إلى دراسة العقل البدائي أو الإنسان البدائي، وهو أمر اختلف تماما عما اصبح عليه الفكر الانثروبولوجي مع مطلع القرن العشرين، حينما جاءت النظرية البنائية الوظيفية لتؤكد البناء الاجتماعي وأنساقه، مفسرين ذلك على أساس ان لكل مجتمع تكوينه الاجتماعي وعلى وفق البيئة التي نشأ فيها، منتقدة بشدة الاتجاه التطوري على اعتباره افتقاره إلى الأدلة اليقينيَّة أو الميدانية، في تفسير تطور الحياة الإنسانية بالاعتماد على التخمين، فضلا عن وصفه بالفكر العنصري، حينما اتخذ من الإنسان الأوروبي (الجنس الأبيض) منتجاً للتطور الإنساني، وعلى المجتمعات الأخرى أن تحذوا حذوه، لتحقيق التطور الذي وصله الإنسان الأوربي (أبان القرن التاسع عشر، حيث ظهور النظرية التطورية الانثروبولوجية)، الا أن ذلك لم يستمر طويلا، حتى جاء الفكر البنيوي في النصف الثاني من القرن العشرين على يد عالم الانثروبولوجيا الفرنسي (ليفي شتراوس)، والذي أحدث انقلابا كبيرا في الفكر الانثروبولوجي، حينما طرح فكرة البنية، بعيدا عن فكرة الأنساق التي تكلم عنها رواد  النظرية البنائية الوظيفية، أمثال (راد كليف براون وايفانز بترشارد) وآخرين، وأقّرَّ بأن البنية هي الأصل التي يمكن أن يقوم عليها الفكر الانثروبولوجي، راجعاً إلى كتابات الرواد الأوائل، حينما تكلموا على العقل البدائي، بدلا من التركيز على الأنساق، إذ كانت نظريته البنيوية تبحث في الاستدلال على المعنى من خلال البنية، واعتبار بنية العقل البشري، تمثل الأصل الأصيل في اهتمامات الفكر الانثروبولوجي بكامله.