يحيى حسين زامل
إن جدلية علاقة اللغة بالهوية حسمه “جون جوزيف” من خلال مؤلفه “اللغة والهوية”، الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة، وإن كان الكتاب مترجماً وليس نتاج العقل العربي، ولكنه أغنى المكتبة التي تفتقر إلى مثل هذا النوع من الدراسات. وبشأن موضوع المقال فقد اخترت هذا العنوان – اللهجة والهوية- كموضوع للحصول على إجازة “الماجستير”، ولكن لجنة “السمنر” اقترحت وأصرّت على اختيار عنوان آخر يحمل في طياته موضوع الثقافة، وقد واساني أحد الأساتذة بعد ذلك في لقاء جانبي بأن موضوعك الجديد كله هوية، فكنت أكتب في موضوع وذهني في موضوع آخر أريد إثباته؛ حول علاقة اللهجة بالهوية من خلال دلالاتها وجذورها وسياقاتها.
وكان أول دخولي في موضوع اللهجة الخاصة التي درستها لفظة (الچا)، وهي لفظة تُمّيز المجتمع العراقي الجنوبي عن غيره، فإذا نطق أحدهم بتلك اللفظة فسرعان ما تحيلك إلى مجتمعها وبيئتها الغارقة باستعمالات هذه اللفظة. واعتزازاً بتلك اللفظة المائزة تُنسب للشاعر “عريان سيد خلف”، هذه الأبيات :
(چا وشحلات الچا چا لعدك انته، هو الحجي بلا چا چا شنهو لذته)، معبراً عن مفردة راسخة في الوجدان والمجتمع والأدب والفن الجنوبي.
وتأتي اللفظة - الچا- في أكثر استعمالاتها بمعنى إذن، ويرجعها بعضهم إلى اللغة السومرية، ولكن بصورة (كا)، ويرجع تحريفها للسهولة في الكلام، وذلك دأب اللهجة إذ تعتمد السهولة والخفة في الكلام. ومن مرادفات (الچا) في اللهجة العراقية، لفظة (اللعد) في اللهجة البغدادية، و(العجل) في اللهجة الغربية (غرب العراق)، و(الزا) في اللهجة المصلاوية، و(اثاري) في لهجة مدينة حديثة، وكل هذه الألفاظ هي دلالات واضحة تُعّبر عن ثقافات ومدن وهوايات فرعية ثقافية، يمكن معرفة هوية اشخاصها من خلال هذه الألفاظ، لذلك يحرص بعضهم على التعمية لإخفاء هويته عندما يكون هناك (تابو)، ولعدم إشهار هويته.
وهناك أكثر من خمسة آلاف لغة في العالم، وربما يكون الرقم مضاعفاً في حالة اللهجات في العالم، وقد بينت بعض الدراسات الأنثروبولوجية أن كل جماعة في المجتمعات البدائية، التي درسها أنثروبولوجيو اللغات كانت تتكلم لغة أو لهجة خاصة بها، وهذا يوّضح تعقيد النظام اللغوي في الحياة، أو كون اللغة وعاء للفكر والتاريخ والجغرافيا والثقافة .
ولا يخفى أن الكثير من اللغويين ينظرون إلى اللهجة بعد الاحترام، ويعدّونها تطفلاً أو انحرافاً أو لحناً زائفاً عن اللغة، بينما ينظر الأنثروبولوجيون إلى كل كلام بصرف النظر عن كونه لغة أو لهجة له نظام وهوية وقواعد، ومن اللطيف ذكره أن بعض اللغات اليوم كانت لهجات في الماضي، كما في اللغة الفرنسية والإيطالية والصينية.. وكانت اللغة الأصل هي اللاتينية بالنسبة للإيطالية والفرنسية، ولكن لصعوبتها، وغلبة الجانب السياسي عليها، فقد استعمل الكثير من الشعوب تلك اللهجات، فصارت لغات، واللغة استعمال كما يذهب اللغوي “فتغنشتاين”. ومن الغريب أن العرب تسمي اللهجة لغة، كما في قولهم لغة تميم، أو لغة قريش التي نزل بها القرآن الكريم. فصارت اللهجة لغة، واللغة في القرآن تُعّبر عن اللغو والهذر والكلام الباطل، لذلك يُفّضل بعضهم لفظة لسان على اللغة لكونها اشمل، وممدوحة في القرآن الكريم، كما في قوله تعإلى: (وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (سورة الشعراء:192-195). ولذلك فلا مشاحة اليوم من إلفات النظر إلى موضوع اللهجة وأهمية دراستها، لا سيّما أنها أصبحت لها امتدادات ثقافية واجتماعية وأدبية في المجتمع على صعيد استعمالها في الأناشيد الدينية، والأغاني والأمثال الشعبية، والمحكيات في تفاصيل الحياة اليومية، ومن الممكن جداً أن يدخل ذلك في الاتجاه الحديث “لعلم الاجتماع اليومي” وهو يتناول الظاهرات اليومية وتفاصيلها باستغراق، بعد أن أشبع درساً وبحثاً لقضاياه الكبرى (الماكرو) اتجه إلى (الميكرو) القضايا
الصغرى. ولعل من المهم الإشارة إلى كتاب الدكتور “مأمون طربيه” المعنون “علم الاجتماع اليومي” وهو يتناول عدِّة موضوعات يومية، ومن أحداها “اسلوب الكلام”، والخطاب وكيف أن الكلام اليومي كاشف عن الذات والثقافة والشخصية. وكيف أن اشكال التواصل اللفظي اليومي يعزز أو يقطع تواصل أبناء المجتمع مع بعضهم. ولذلك فإن أهمية اللهجة تتعدى الهوية في المجالات البحثية الحديثة، وتذهب بعيداً هناك نحو عالم أرحب، يجعل من اللهجة ممتزجة تداولياً مع اللغة كنظام وثقافة عام وشمولي.