تقول إحدى الدراسات، “إنّ أولئك الذين يتحكّمون بالمكان يمكن أن يكون في وسعهم دائما السيطرة على سياسات المكان”، ولكن من هو الذي بإمكانه السيطرة على المكان، كي يتحكّم بالسياسات العامة التي تشمل البلاد؟. لا شك أن المتحدث، وهو ديفيد هارفي لا يلقي الكلام على عواهنه، بل يجد في فكرة التحكم الطريقة العملية للتمايز الطبقي في المجتمع، بل يذهب إلى أن من يسيطر على المكان عليه ان يسيطر على الناس أيضا، فالناس وأمكنتها في وشائج رحميّة، وهنا تتضح المعادلة، عندما الناس هم الأمكنة، وأن الأمكنة هي من يسكنها أو يشتغل فيها، فالمكان ومن يشغله في وحدة بنائيّة متضافرة، لا يمكن احتساب تطور أحدهما دون الآخر، وها نحن نرى التقدم يتحول من فكرة على الورق إلى نتائج عملية ملموسة، في السكن والعمل وبناء المدن وتطور المؤسسات والأسواق وزيادة العلاقة مع العالم، كل ذلك يتم من التضافر بين الناس وأمكنتها، الأمكنة ومن يستثمرها ويشغلها. والبعد الذي يختفي وراء هذه الفكرة، هو التشغيل، تشغيل الأمكنة وتشغيل الناس، وما دامت الملكية تعني السيطرة على السياسة العامة، يوجب أن يكون الناس منشغلين بتطوير الأمكنة كي تكتمل السيطرة ويعم مبدأ الملكية العامة، ومن ثم بإمكان من يملك الأمكنة أن يفرض سياساته. مثل هذه المعادلة المركبة من أربعة أسس: ملكية المكان، ملكية أدوات الإنتاج، القدرة المالية على توظيف رأسمال، لتوفير العمل، قدرات التسويق للإنتاج، كلّ هذه الأسس تعني التحكم بالمكان وبمارده، مما يعني أن الهيمنة الاقتصادية تصبح اديولوجيا، وتحكما سياسيا، يصاحبها إعلان، وقدرات الدعاية والصدق المغلّف بالأكاذيب. وأي خلل في أي أس من هذه الأسس الأربعة، يعني ثمة صراع حقيقي سينشأ بين مالك الأمكنة وشاغليها. والغاية المنشودة من وراء ذلك كله هو إحداث توازن بين القوى الرأسمالية والقوى العاملة. هذا التوازن الذي ينمو متكافئا، لا يُلغي الفرق بين تفكير الرأسمالي والتفكير العمالي، وهو الميدان الذي تشتغل عليه الإيديولوجيات المختلفة.
في ميدان الإبداع الأدبي، لا يختلف الأمر كثيرًا، عمّا ذهبنا إليه، فالروائي مثلا، عليه أن يتحكّم بادوات إنتاج عمله ومنها الأمكنة التي تجري فيها أحداث روايته، قصيدته، مسرحيته، لوحاته الفنية...الخ، هذه الأمكنة الواقعية والمتخيلة، وما يحيط بها من علاقات، وما يكشفه فيها من قدرات وتواريخ، وحدها التي تشكل راسماله الإبداعي، وعندها ستتحول في الإنتاج الإبداعي إلى أمكنة فنية ورؤى وأفكار، وممكنات خيالية، وبناء لعالم جديد، وتصور عن الإنسان الذي سيشغل هذه البقاع الفكرية بفضاءاتها الشاملة، حين يحول فضاءاتها الطبيعية، إلى فضاءات فنية وجمالية، أما ادوات إنتاج المعرفة، فستكون بالنسبة للروائي، هي الأساليب الفنية التي يخضع بها الأمكنة ويهيئها للاشتغال الفكري، تمهيدًا لاستحضار الشخصيات التي هي بمثابة العمال الذين يشتغلون في حقول الرواية المكانية، أما أدوات الإنتاج والعمل وما يلحقها من تسويق وفائض القيمة، فليست إلّا الجودة الفنية، والطرح المميز للأفكار، والطريقة الجمالية التي يغلف فيها حركة الشخصيات ولغتهم لتسويقها بين القرّاء، واستثمار وجود افكار جديدة وانشغال المؤلف جماليا بالفنية وطرائق القول، وسيكون الحاصل الإنتاجي من وراء ذلك كلّه، هو جودة العمل وفرادته جماليا وبقاؤه حيًا في القراءات اللاحقة، واحتواؤه على شيء من التفلسف، ليصبح أمثولة جيدة لروائي أجاد العمل في ما يمتلكه من أدوات معرفية وعملية. وبالطبع، كأي انتاج إنساني سيخضع إلى مضاربات السوق، وجمهور المشترين والمستفيدين، وعليه فهناك حركة للرأسمال المعرفي الذي يعوّض بالنقد. واي خلل في اي جزئية من العملية الفنية كلّها، يعني وجود صراع بين قوى النص، وقوى التسويق، ربما يؤدي إلى ضياع الجهد. قد لا يتصور أحدنا، أن عملية التأليف هي عملية الهيمنة على عناصر النص، كما لو كان المؤلف رأسماليًا يملك المال والأرض والناس وادوات الإنتاج، وسيجلب عمالا بلغات وثقافات مختلفة إذا تطلب الأمر ليشتغلوا في حقله المعرفي، وسينتج نتيجة طرائقه الفنية المختلطة، نصًا جماليا كونيًا، يمكن تسويقه عالميًا. ليس من أرض تقبل نباتات أخرى للزرع فيها، دون أن تكون مهيأة عمليا ومناخيا لذلك، النصوص الأدبية هي حصيلة ارض مختبرة بامكانيتها أولا، ثم بقبولها لما يضاف إليه، دون ان تفقد هويتها المحلية.
في مثل مجتمعاتنا، قد لا تتوفر شروط انتاج المعرفة ووفق سياقات الحداثة وما بعدها بالكامل، بحيث يستطيع المؤلف أن يجاري عملية الإنتاح والتصنيع والتسويق العالمي، نجد الكثير من كتابنا، يلجؤون إلى التقليد، لاستثمار طرائق فنية مجربة لكتاب آخرين، كانوا قد عملوا في أمكنة غير أمكنتهم، ووظفوا شخصيات مختلفة الثقافة من شخصياتهم، ووظفوا خبرة كافية لإنتاج أعمالهم مهنيا، ومن ثم انتجوا اعمالا، مستبطنة الانثروبولوجيا والمثيولوجيا والأثنولوجيا، هكذا تقرأ بلزاك، واميل زولا، وغوتة، وجويسن وديستوفيسكي وغيرهم، لتجد أن أمكنتهم مطعّمة بما هو عالمي، ولكنهم يستثمرون حقولا معرفية مختلفة، كي تقف أفكارهم على أرض مختبرة، وتتحول رؤاهم من محليتها إلى كونية مقبولة. وهنا، تبدا المشكلة، أعني مشكلة كتابنا الذي يبحثون على آفاق رحبة لأعمالهم، وهي ان عناصر البناء النصي ستتمرد على مؤلفها، إذا لم تجد الأرض مفلوحة جيدا، لانها لا تنتج بما يكفيها أن تكون متكاملة، ودائمًا ثمة صراع ينشأ بين قوى الإنتاج من أجل تحسين العمل الفني، وقوى الرغبات في التجديد، واي طماح لتجديد ما لدينا دون مختبرات للأرض المحلية، فهي وحدها التي تستدعي جراثيم الحداثة.