الإمام الجواد الإحياء الإنساني ومنهج المعرفة التوحيدية

العراق 2022/06/30
...

 جواد علي كسار
محمد بن علي الملقب بالجواد والمكنى بأبي جعفر والمعروف بابن الرضا، هو الإمام التاسع من أئمة أهل البيت. ولد في المدينة المنورة سنة 195هـ، وعاش مع أبيه الإمام علي بن موسى الرضا نحو سبع سنوات، عاصر فيها قضية ولاية العهد، عندما أصرّ المأمون على والده الرضا قبول ذلك الموقع، مع ما اكتنف هذه الواقعة من التباس، أفضى وما زال لقراءات تأريخية منوعة لتلك الحقبة من التأريخ السياسي للمسلمين.
الشعاع الأول
بعد غياب والده الرضا عام 203هـ صار في صلة مباشرة مع الحكم العباسي عبر المأمون، الذي حرص على رفع مستوى الصلة بينهما إلى القمة، عندما أقدم على تزويج أبنته أمّ الفضل من الإمام الجواد، في بادرة واجهت اعتراضات الأسرة العباسية الحاكمة، وإصراراً من المأمون على إنجازها، حتى قال المؤرخون وصفاً لشدّة ولع المأمون بهذه الخطوة وإصراره عليها: "وكان المأمون قد شُغف بأبي جعفر عليه السلام، لما رأى من فضله مع صغر سنّه، وبلوغه في العلم والحكمة والآداب وكمال العقل ما لم يُساوِه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته أمّ الفضل وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره" (يُنظر: الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 281).
واقعة الاختبار
يذكر المؤرخون ومدوّنو السيرة حوادث صعبة رافقت قرار المأمون هذا، عندما ألحّ المقربون منه على صرفه عنه، محتجّين بأنهم بالكاد تخلصوا من والده الرضا ومن موقع ولي العهد الذي كان يتبوأه، وإذا بهم أمام مشكلة جديدة تهدّد مستقبلهم في السلطة، بل تضع مستقبل الحكم العباسي كله في مهبّ الخطر: "ننشدك الله يا أمير المؤمنين، أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت من تزويج ابن الرضا، فإنّا نخاف أن يخرج به عنّا أمر قد ملّكَناه الله، ويُنزع منا عزّ قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم".
بيدَ أن المأمون تمسّك بقراره، وناقش سُراة أسرته وأكابرها وردّ عليهم؛ من أن سياسة أسلافه كانت تجسيداً لقطيعة الرحم، وجهلاً منهم بمنزلة علي وآل علي. وعن الإمام الجواد خاصة، فقد قال في تبرير اختياره له: "أما أبو جعفر محمد بن علي، فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلموا أن الرأي ما رأيت فيه".
أمام هذا الموقف الثابت للمأمون، انتقل المعترضون خطوة إلى الوراء، وتحجّجوا بصغر عمر الإمام الجواد، واستمهلوه بأن ينتظر حتى يكبر، أو بحسب قولهم: "فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدّب ويتفقّه في الدين، ثمّ اصنع ما تراه، بعد ذلك".
لم يتزحزح المأمون قطّ، بل ردّ بيقين: "ويحكم إنني أعرفُ بهذا الفتى منكم، وإن هذا من أهل بيت علمهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في  علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال". 
لكن مع ذلك، ولكي لا يدوم الموقف سجالاً بين الطرفين، اقترح المأمون مخرجاً، بأن يُصار لمجلس اختيار للإمام أبي جعفر: "فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفتُ من حاله".
وهكذا كان. فقد اختاروا مجلساً علمياً مثّل المعترضين فيه القاضي يحيى بن أكثم، ودارت مساجلة مطوّلة وثّقها التأريخ، انتهت بهزيمة المعارضين وإذعان ابن اكثم وتواضعه لعلم الإمام الجواد، ليكسب المأمون الجولة، ويزوّج ابنته أمّ الفضل من الإمام، ويسدل الستار على هذا الفصل من حياة الجواد عليه السلام.
 
السلطة أم الهداية؟
يقدّم لنا النص التأريخي للمعترضين على اختصاره، ملخصاً مكثّفاً لقصة العلاقة بين أئمة أهل البيت والسلطة العباسية. فالصراع في العمق يقوم بنظر العباسيين من خشيتهم على السلطة، ومن ثمّ كانت الستراتيجية هي الإقصاء والتبعيد للأئمة والتصفية غيلة، برغم أن سلوك أئمة أهل البيت لم يكشف قطّ، عن توجّهات مُباشرة باتجاه السعي إلى السلطة، يستوي في ذلك من عاصر منهم حكام بني أمية وحكام بني العباس، على مدار مئتي سنة وأكثر قليلاً. فقد كان الجهد الأول للأئمة عليهم السلام، منصرّفاً إلى مهام الهداية ومتطلبات البناء العقدي السليم للمسلمين، وحماية القرآن وشريعة جدّهم سيد المرسلين، ومواجهة سيل الأسئلة والشبهات في مختلف العصور والأوقات، لاسيّما مع انفتاح المسلمين على مختلف الثقافات والمذاهب والتيارات، بعد اختلاطهم بالأمم والديانات، نتيجة الفتوحات والاتساع المتزايد لرقعة بلاد المسلمين.
كانت همّة أئمة أهل البيت منصرفة إلى الناس، من خلال مبدأ الهداية المرسوم قرآنياً كوظيفة أولى للأئمة: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا" (الأنبياء: 73)، كما أيضاً من خلال حديث الثقلين: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي.. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي".
هذه الوظيفة الهدائية للناس تحوّلت في حياة أئمة أهل البيت إلى همّ لم يبرحهم قطّ، حتى عبّر عنها الإمام محمد الباقر جدّ الجواد، بوصف "البلية" في قوله: "بليّة الناس علينا عظيمة، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بخيرنا". هذه معادلة لم يجرؤ عليها أحد قطّ من أكابر أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله، من غير العترة الطاهرة؛ وإلا فهذا تأريخ الكبار مبسوط بين أيدينا، هل وجدنا أحداً من المحدثين والفقهاء والمفسّرين والمتكلمين والفلاسفة، قد تحدّث بمثل هذه اللغة، وحصر مهمّة الهداية فيه؟ كلا، هذه اللغة لا تليق إلا بالثقل الثاني، ولا تصدر إلا عن عدل القرآن.
هذه كانت وظيفة الإمام محمد الجواد، وهو يقتفي خطى أسلافه من أئمة أهل البيت، ولم تكن السياسة واستلام السلطة همّه الأوّل، على ما كان يخشاه العباسيون، لاسيّما بعد أن تعزّزت هذه المخاوف، مع انعطافة أبي جعفر المنصور (136ـ 158هـ). فقبل أبي جعفر كان الخطّ الطالبي ـ العلوي متوحّداً بشقّيه العلوي والعباسي، ما أدّى إلى تقليل التوتر والحساسية بين الجناحين، إلى أن وصل المنصور إلى السلطة، وعمل على نحو منهجي منظّم بفصل الخطّين عن بعضهما، وتحويل العلاقة صوب التوتر والعداء؛ وهذه قصةٍ أخرى تحتاج إلى تأمّل.
 
المرجعية المعرفية
لقد عاصر الإمام الجواد عصر المأمون (198ـ 218هـ) وشيئاً من عصر المعتصم من بعده (218ـ 227هـ) قبل أن يستشهد عام 220هـ. في هذه المدّة كانت سلطة المسلمين وسلطانهم ودولتهم، قد اكتسحت الأرض وبلغت ذروة عالميتها، وكذلك ازدهرت الحياة الثقافية والعلمية والفكرية، وانطلقت مراكز المعرفة والمعاهد والمكتبات، وتصاعدت حركة الترجمة، فأينع ذلك كله عن ولادة الفرق والمذاهب والاتجاهات، ما أدّى إلى التباسات في العقل الإسلامي، وبروز تشوّش واضطراب في البناء العقدي والثقافي، لاسيّما مع دخول ثقافات الأمم الأخرى وسريان نحلها ومتبنّياتها بين المسلمين.
في ظلّ هذه الأجواء سار الإمام على خطى من سبقه من أئمة أهل البيت، فكان التوحيد هو المنارة الأولى، بالإضافة إلى النبوّة والولاية والقرآن، ومن ورائها الحديث والفقه والأخلاق، وبقية المعارف. ومع أن حياة الإمام الجواد لم تدم طويلاً، فقد غاب عن المسرح في الخامسة والعشرين من عمره، إلا أنه ترك لنا قدراً مهمّاً من كنوز المعارف، بثّها في دنيا المسلمين وقد اغترفها من عيون جدّه الرسول، ومن ينبوع آبائه الأئمة.
عن أبي هاشم الجعفري: "قلتُ لأبي جعفر الثاني: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، ما معنى: الأحد؟ فأجاب الإمام: "المجمعُ عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ (العنكبوت: 61)، ثمّ يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة!"
عاد أبو هاشم ليستزيد من المعرفة التوحيدية الصافية، بسؤال جديد عن قوله سبحانه: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ (الأنعام: 103)؟ فأوضح الإمام له، بأن الله سبحانه لا يقع في طائلة أوهام القلوب، فكيف يمكن للأبصار أن تدركه؟!. يقول عليه السلام: "يا أبا هاشم، أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون. أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولم تُدرك ببصرك ذلك؛ فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار؟!".
ومن عيون نصوص الإمام الجواد ومن غررها في المعرفة التوحيدية، بيانه للأسماء والصفات الإلهية، وهل هي شيء مع الله سبحانه، أم خُلقت بعد ذلك؟ فقد سأله رجل: "اخبرني عن الربّ تبارك وتعالى، له أسماء وصفات في كتابه؟ وأسماؤه وصفاته هي هو؟
أجاب الإمام: "إن لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: هي هو، أي أنه ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك. وإن كنت تقول: هذه الصفات والأسماء لم تزل، فإن "لم تزل" محتمل معنيين: فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو مستحقّها، فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره. بل كان الله ولا خلق، ثمّ خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه وهي ذكره، وكان الله ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل".
 
مواجهة الظلم
ذكرنا أن الخطّ العام لنشاط الإمام الجواد لم يكن متجهاً إلى استلام السلطة. وهذا المعنى قد يلتبس مع قضية مهمّة هي الظلم والظالمين، إذ قد يوحي مداهنة للسلطان الظالم والحكم الجائر، وهذا غير وارد في منهج الأئمة عليهم السلام. فعدم السعي إلى السلطة بالمعنى الذي أوضحناه، كان يعني  إنفاق الجهد الأكبر على واجب الهداية، وتقدّم لوازمها على العمل السياسي المباشر لاستلام السلطة، لكنه لا يعني مبدئياً ممالأة السلطة أو الإقرار بالسلطان الجائر. يقول عليه السلام: "العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء"، كما قوله: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس". 
وفي نص آخر يضرب الإمام الجواد على معادلة التديّن الأحادي الراكد، الذي يستريح فيه صاحبه إلى المقاييس الذاتية، كالعزلة والانقطاع والزهد، ويعدّل هذا الميزان باتجاه موقف صريح من الظالمين، فيقول: "أوحى الله إلى بعض الأنبياء: أما زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، وأما انقطاعك إليّ  فيعزّزك بي، ولكن هل عاديت لي عدواً وواليت لي ولياً؟".
 
عيون الحكمة
من عيون نصوصه وفصوص حكمته، قوله عليه السلام: "لو سكت الجاهل ما اختلف الناس"، "العلماء غرباء لكثرة الجهّال بينهم"، "إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له"، "من لم يعرف الموارد أعيته المصادر"، "من هجر المداراة قاربه المكروه"، "كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة"، "من عمل على غير علم ما يُفسد أكثر مما يُصلح"، "قد عاداك من ستر عنك الرشد إتباعاً لما تهواه"، "الأيام تهتك لك المرّ عن الأسرار الكامنة"، "إنه من وثق بالله أراه السرور".