حينما نطالع تاريخ الفلسفة من جهة والمسائل التي تبحثها الفلسفة من جهة ثانية، سندرك حقيقة قلما يتنبه إليها وخاصة أولئك المأسورين خلف قضبان أكاديميات السلطة والمؤسسات الرسميَّة.
تلك الحقيقة التي يصدقها الواقع بوحي اشتغالاته وضروب الحجج التي يسوقها كل لحظة لتحقق فكرة وخبرة للإنسان في هذه الحياة التي يعيشها ومنها ينحت أفكاره العامة ويصوغ قوالبه المفهوميَّة،
تلك الحقيقة التي حاولت وتحاول مختلف ضروب السلطة تغييبها وتحريفها باسدال الستارة عليها، كونها لا تخضع لمطارق المناهج التي تبدد الفكر وتقصيه من التفاعل مع جمهور عامَّة الناس الذي يشكل جوهر فعل الحياة وقوام اجتماعها، وكون هذه الحقيقة تنعم بمنفسحات كبيرة من الحريَّة واطلاق سرب التفكير الناقد غير المكترث للادلجة والتنميط.
تلك الحقيقة هي أنَّ الفلسفة شعبيَّة بدأت على شكل حوارات ونقاشٍ حرٍ في الفضاءات العامَّة، وأقصد من كون الفلسفة شعبيَّة بمعنى انها ولدت من رحم الواقع المحموم بألوانٍ مختلفة من التساؤلات والمشكلات والمعاناة وإشكاليات وجوديَّة مختلفة وأنَّها نشأت قريبة من عامة الناس تحاكي نمطاً من التفكير المهموم بوعي المجتمع وإعلاء شأن العقل فيه ورفع مستوى الإنسان الى حيث الارتقاء في سلم التكامل النفسي والعقلاني.
ولم تصلنا بيانات تتحدث عن أنَّها نشأت ونمت وتطورت في أروقة الاكاديميات [تحولت بعد ذلك الى الأكاديميات أي أنها طورت لنفسها منهجاً لإيصال معلومتها وتدارس أفكارها، وبقيت محافظة على نمط نشأتها] فمن خلال رجوعنا ونحن نطالع التاريخ وبالتحديد تاريخ الفكر الفلسفي ستظهر أمامنا ناصعة بيانات ذلك الإنسان الذي ادعى أنَّ رسالته في نشر الفلسفة إلهيَّة وأنه أخبر بها عن طريق إلهام من نوعٍ خاصٍ.. سقراط الذي كان يجوب في طرقات أثينا ويحاور كل من يلقاه من عامَّة الناس ونخبتهم ويطرح عليهم الأسئلة ويبادلهم الحجة بالحجة والدليل بالدليل كان ذلك في الفضاء العمومي ولم يتقيد بأسوار الجامعة أو يحيد التعقل والتفكير بأسيجة الأكاديميَّة أو المدرسيَّة.
وعلى سبيل الاستشهاد فإنَّ ماركوس ويكس يرى أنَّه يمكن لأي إنسان أنْ يمارس تعلم الفلسفة «كنظريَّة وقوانين وتاريخ» في أحد مجالين الأول: قد يجدها في الكثير من المدارس والجامعات بمناهج مختلفة ومن خلال تلك المؤسسات يحصل على شهادة رفيعة في الفلسفة وهذا المجال نطلق عليه المجال الأكاديمي.
أما الثاني فإنَّ الفلسفة تتحصل من خلال مجموعات النقاش المعرفي والفلسفي في الملتقيات العامَّة ومجالس مذاكرة الفلسفة بشكلها غير النخبوي أو حتى النخبوي غير الأكاديمي بل ولعله هناك الكثير من الدروس الليلية في العديد من الدول تتناول الفلسفة.
المهم في الفكرة أعلاه أنَّ الفلسفة كما يمكن تحصيلها داخل أروقة الأكاديميات، كذلك هي تتحصل في مجالس النقاش العام وفي الملتقيات الشعبيَّة والنخبويَّة على حد سواء، ذلك أن الفلسفة بمعنى ما هي [موقف عقلي للإنسان تجاة ما يمرُّ عليه ويشاهده ويباشره من أحداثٍ وأشياء وتعابير مختلفة ويكون له إزاء كل ذلك وجهة نظر وموقفٌ من نوعٍ ما]
إذ ليست الفلسفة بعيدة عن واقعها وملابساته هي تعتمل في صميم الواقع وتبحث فيه وتستنطقه بالطريقة التي تجعله مفهوماً وواضحاً للتلقي والممارسة، ومن هنا فإنَّ مجال تحصيل الفلسفة يكون أكثر مرونة وأوسع نطاقاً وأجزل إرثاً نظرياً خارج أسوار المؤسسات الرسميَّة التي قد تكون بمعنى من المعاني قاتلة للإبداع والحيويَّة بسبب صرامة المناهج وتقييدها بنظمٍ رسميَّة اعتادت عليها السلطة.
وليس ذلك فحسب فلو نظرنا الى الفلسفة كطريقة وفن في ممارسة الحياة فإنَّ جميع الناس فلاسفة ولا فرق في ذلك بين متعلم وغير متعلم ذلك {أننا جميعاً فلاسفة وعينا أم لم نعِ، فإنَّ تحت سطح حياتنا الظاهرة وفي مجال لا يكون واعياً توجد الفرضيات الخفيَّة التي نعمل عادة على اساسها ولذلك يقول تيلور اننا لسنا مخيرين بين أمرين أنْ تكون لنا فلسفة أو العكس} كما يقول جون لويس، ومن هذه الناحية العمليَّة فإنَّ للإنسان - بلا شرطٍ - رأياً في الحياة وفي شكل الممارسة التي يفضلها وبالطريقة التي يمني نفسه العيش فيها وكذلك له تصور عن طبيعة علاقته مع الكون ومع الآخرين، فمن هذه الناحية كل الناس فلاسفة وذلك لا يحتاج الى تحصيله في المؤسسات العلميَّة أو الأكاديميَّة بشكلٍ عامٍ بل هي طريقة تعليم ثريَّة تمدها التجربة وخبرة الآخرين ومباشرة الواقع والاحتكاك مع الأشياء وتأمل ما يدور بين ظهراني الإنسان من أحداثٍ بالمادة الاساسيَّة للمعرفة وبمختلف الأفكار المصحوبة بالتجربة والملاحظة وغيرها من الحجج المستوحاة من منطق الواقع ووحي اشتغالاته.
لذا يكون التحصيل الفلسفي خارج اسوار الاكاديمات اكثر حريَّة وحيويَّة فهو من جانب يمارس التحصيل ومطارحة الافكار وتلقي المعلومة بحريَّة تامَّة بحيث يمكنه قبولها كما هي أو تحليلها ونقدها وردها ورفضها إنْ لزم ذلك، والمتفلسف من خلال هذه العمليَّة يثري فاهمته بالمعلومات ويطور الحس النقدي لديه ويجعله يفكر بشكلٍ إيجابي ويبتكر فيه استعداد التطور والتقدم وهذا ما يجعله فكراً وتعليما حيوياً فيه من المرونة والقدرة على مماشاة الراهن وحلحلة مشكلاته ومواكبة الأحداث وتقدير المحتملات للمستقبل فيكون العقل الإنساني في مثل هذه الحال شعلة متقدة من الفكر، وليس أوضح قولاً في ذلك مما قاله ميشال اونفري [يجب على الفلسفة أنْ تعود الى الشارع وتخرج إلى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة. لاحظ كيف تزدحم أعمال افلاطون بالناس، السمّاكين، الاسكافيين، المومسات المارات الخ، الفلسفة لا تخص مشرعين يقرؤون الكتب المعينة ويتفلسفون خلال وقت دوامهم. أنْ تكون فيلسوفا يعني أنْ تتفلسف طوال الوقت] بمعنى ان تعود الى الواقع الذي كانت نتاجاً له، بدل أنْ نختزلها في قوالب تفقدها حيويتها وقدرتها على التطور، فالقوالب الجاهزة تقضي على الإبداع وتحصر التفكير في زوايا معينة تحدث بينه وبين الواقع والناس قطيعة معرفيَّة.