جواد علي كسّار
كنتُ أعاتبُ أحد الأصدقاء من الخطباء عن سبب هذا التكرار الفظيع لمجلس الإمام موسى بن جعفر، بحيث لا نشهد تجديداً في المادّة والمضمون والنصوص، حتى إذا ما ألغينا الزمن، نكاد نجد أنفسنا أمام مجلس واحد يتكرّر كلّ سنة، حفظنا مادّته بل حتى أشعاره في المصيبة والرثاء عن ظهر قلب، وأصابتنا الملالة من فرطِ هذا التكرار، بحيث عزفتُ شخصياً عن حضور أمثال هذه المجالس وقاطعتها!.
هل يعود ذلك إلى فقر المادّة التاريخية عن حياة باب الحوائج، أم إلى تقاعس الخطباء أنفسهم عن البحث والمراجعة والدراسة، ومن ثمّ عجزهم عن تجديد محتوى الخطابة في هذا المجلس الكاظمي، الذي يحظى بأهمية استثنائية خاصّة في العاصمة بغداد؛ وهو يأتي ثانياً بحجم الإحياء الشعبي، بعد المناسبات الحسينية؟. لا أعتقد أن هناك مشكلة في المصادر، ففي لحظة كتابة هذا العمود استحضرتُ أمامي أكثر من خمسة مصادر بعضها أساسيّ، وهي مملوءة بالمادّة من مواقف ونصوص ومعارف، تكفي لإثراء المنبر ليس في الحدود الزمنية للمناسبة وحدها، بل من الممكن أن تمتدّ على مجلس يوميّ متخصّص عن حياة الإمام الكاظم، يدوم لمدّة سنة كاملة كما أخبرتُ ذلك أكثر من واحد من أصدقائنا الخطباء!.
على سبيل المثال كنتُ ولا أزال استغرب إهمال المنبر لما أسميه بحديث المعرفة، رغم أنه ورد في مراجع أساسية من قبيل "البصائر" و"الإرشاد" وسواهما من المصادر، ولا تزال حسرة تفيض في نفسي، أن أسمع إشارة إلى هذا الحديث من خطيب أو من فضائية أو إذاعة، على كثرة الساعات التي تُخصّص لإحياء المناسبة!
ينطلق حديث المعرفة من واقعة جرت للإمام الكاظم وهو في المدينة المنوّرة، ترتبط بحياة رجل يُقال له الحسن بن عبد الله، اشتهر بالاستقامة والعبادة والزهد، وكان جريئاً في استقبال الولاة والحكام بالكلام الصعب، وهو يعظهم ويأمرهم بالمعروف، وهم يحتملون منه ذلك لصلاح حاله. كان هذا لا يزال حاله حين دخل الإمام الكاظم المسجد يوماً، فأدنى إلى الرجل، وقال له مُكنياً ومُثنياً عليه، دِلالة على الاحترام: يا أبا علي، ما أحبّ إليّ ما أنت فيه، وأسرّني بك، إلا أنه ليست لك معرفة، فاذهب فاطلب المعرفة!.
سأل الحسن بن عبد الله الإمام الكاظم: جعلتُ فداك، وما المعرفة؟ قال الإمام: إذهب وتفقّه واطلب الحديث، سأل الرجل: عمّن؟ ردّ الإمام: عن أنس بن مالك، وعن فقهاء أهل المدينة، ثمّ اعرض الحديث عليّ. ذهب أبو علي وتكلم إلى علماء المدينة، ثمّ رجع إلى الإمام وعرض عليه، فأسقطه كله، وكرّر عليه الطلب: إذهب واطلب المعرفة.
الواقعة طويلة ويمكن مراجعتها في المصادر، ونهايتها أن الرجل الزاهد ارتبط معرفياً، بنبع النبوّة موسى بن جعفر، فامتلأت نفسه يقيناً، وهدأت جوارحه فآثر السكوت، في درس أملاه عليه وعلينا موسى مفاده؛ بإن المعرفة تأتي أولاً، ثمّ العبادة والمواقف والكلام، وإلا كان ما يُفسده الإنسان أكثر مما يصلحه!.