يعدُّ مفهوم الهوية من المفاهيم الشائكة والملتبسة، ومردُ ذلك الالتباس هو أن لكل ذات فردية أو جمعية أكثر من هوية / دينية/ طائفية/ قبلية/ سياسية / طبقية/ مهنية/ وطنية/ قومية/ انسانية وسواها من الهويات، ولا شكَّ بأن الهوية الثقافية بمفهومها العام كونها مجموعة وجهات النظر والمنظومة الآيديولوجية، فإنّ مبدع النص كحامل لعدد من الهويات فهو يجد نفسه تلقائيا منحازا الى انتمائه الهوياتي وربما داعيا الى المنظومة الفكرية لهذه الهوية أو تلك ويعبر عنها عبر ما اسماه بول ريكور بالهوية السردية، وازاء المفاهيم المعاصرة للقبول بالمختلف والتنوع الهوياتي في المجتمع فإنّ في بعض مفاهيم مابعد الحداثة وتحديدا في ما دعا اليه فيلسوف الاجتماع الفرنسي ليوتار الى تقويض المرويات الكبرى التي سادت مرحلة الحداثة والدعوة الى إحلال التنوع والاختلاف الهوياتي كحالة قائمة ومسلّم بها في أي مجتمع على أن يسود مبدأ القبول بالآخر والتحاور معه دون التمحور على الذات ومن دون فرض او الدعوة لسيادة نمط فكري معين على بقية الهويات المختلفة، عندئذ من الممكن التحدث عن مجتمع متسامح يسوده القبول بالآخر واحترام هويته، ولعل ذلك ماينبغي ان يسعى اليه مبدعو النصوص أيا كان الجنس أو النوع لإشاعة ثقافة القبول بالآخر دون اقصاء أو تهميش، وكل ذلك يحصل في مجريات النص بوجود الآخر المختلف والمتعايش معه سرديا.
لذا فإنّ مقولة (ليس هنالك نص بريء) قد اكتسبت شيوعها والأخذ بها كمعيار للنص المؤدلج من خلال ظهور السرديات الكبرى في القرن التاسع عشر وعدت مفاهيم الهوية الانسانية الشاملة واحدا من مرتكزات فكر الحداثة، ولعل الفكر الماركسي والفكر البرجوازي كانا من أعمدة تلك السرديات التي تعرضت للتفكيك والنفي من قبل فكر مابعد الحداثة الذي وجه انتقادات لفشل المشروع الغربي البرجوازي في اقامة المجتمع العادل والمروج للمساواة وحقوق الانسان، وبسط السيطرة على الطبيعة واستثمار الثورة التكنولوجية والصناعية لصالح الانسان، إلّا أن إقحام الشعوب في حربين عالميتين والمجازر العرقية والدينية التي حصلت اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية التي استخدمت فيها التقنيات المتطورة لإبادة الشعوب والتجمعات البشرية الدينية والعرقية استثمارا لموجهات الهوية الانسانية الشاملة الرأسمالية في شكلها الكولنيالي تحديدا، الأمر الذي ادى الى ظهور الأفكار المكرسة لوجود التباين والاختلاف بين الهويات وضرورة احترام والتحاور السلمي بين هذه الهويات واشاعة مفاهيم الهويات المختلفة والعدول عن فكرة الهوية العالمية الذي كرسته السرديات الكبرى وحلول مفاهيم التباين والأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات الهوياتية لإقامة مجتمع انساني ينعم فيه الجميع بالتعايش السلمي دون التمحور حول الذات واقصاء الآخر المختلف، ولعل في وجهة النظر هذه ماينفع مجتمعاتنا التي تشهد احترابا داخليا بسبب من الاعتقاد بصحة افكار طرف على حساب الاطراف الأخرى التي تتعرض للإقصاء وصل حد تهديد الوجود البشري وعلى مستويات دينية وعرقية واثنية وقومية وحتى طبقية، لذا فإنّ استثمار هذه المفاهيم على مستوى اقامة المجتمع المتعايش يعد من الحلول الناجعة التي يبثها فكر مابعد الحداثة، وإزاء ذلك فانا أجد أن مفهوم مقولة (ليس هنالك نص بريء) بحاجة الى اعادة صياغة نتيجة لتطور الأفكار وظهور ما ينقضها وماينفع التوجهات الجديدة للمجتمعات البشرية، ففي الوقت الذي كان فيه النص ليس بريئا للحمولة الأيديولوجية التي شكلت وجهة نظر او رؤية النص انحيازا وتكريسا لوجهة نظر أحادية، فإن براءة النص عندنا وفق المفاهيم الجديدة هو النص الذي لايخلو من الآيديولوجية الا انه لايتمحور حول ذاته ليقصي الآخر وإنما يتعايش معه.
ومن الآن فصاعدا سيكون النص البريء هو النص الذي ينفتح على فكر الآخر وفق الإقرار بوجود الاختلاف والتباين وعلى كافة المستويات، اما النص غير البريء فهو النص الذي يتمحور حول ذاته ويدعو الى وجهة نظر احادية تؤدي الى اقصاء الآخر، ولا شك بأننا حين نطرح مفهوما جديدا انما بفعل التطور الحاصل في البنية الاجتماعية والذي يدعو باستمرار الى مراجعة المفاهيم القارة في البنية الفكرية للمجتمع.