حكم الرعاة: عراق ما بعد 2003
علاء حميد إدريس
تحيل مفردة رعاة إلى الراعي الذي يهتم بالشيء ويحيطه برعايته ويعتني به. ولهذا حملت دلالة معنوية وأخلاقية، لأن من راعى الأمر راقب مصيره ونظر في عواقبه. ولذلك شملت معنى الولاة، الذين يتولون أمور الناس ورعايتهم والحفاظ على مصالحهم. وظلت هذه المفردة تذكر بمضمون الحديث النبوي: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». ولكن بعد تغيُّر النظام المستبد 2003 في العراق أخذت تنفصل هذه المفردة عن معانيها، لتصبح بدلالة مختلفة قطعت مع المعنى الاخلاقي والمعنوي الذي بنيت عليه. وباتت تعبّر عمن امتلكوا النفوذ والمال والسلاح في العراق بعد 2011.
إنّ معنى الرعاة يعبّر عن فاعلية أشخاص حزبيين وسياسيين نفذوا إلى السلطة بعد 2003 لا يحكمهم قيد أخلاقي أو إسلامي الذي يضعه الحديث النبوي المذكور أعلاه، بل الحاكم على حركتهم وتفاعلهم المصلحة والمنفعة اللتان تعززان وجودهم في السلطة.
ولهذا بدأت تتكوّن طبقة من الرعاة شكَّلت مجتمع السلطة الخاص بها.
كما عملت على حراسة مجتمع السلطة وعدم السماح لأي كان بدخوله.
ومن أراد النفوذ إلى هذا المجتمع عليه نيل قبول الرعاة به.
ولهذا بات الرعاة يتحكّمون بدور ناقل من المجال العام – المجتمع إلى المجال الخاص – مجتمع السلطة لمن يرضون عنه ويمثّل لهم زيادة في التمكين من السلطة والقوَّة.
لقد أسَّس الرعاة سلوكاً وممارسةً تعبّر عن كيفية الوصول إلى مواقع النظام ومؤسساته، ومن يراقب الرعاة ويلاحظ القيم والمعايير التي أصبحت تعبّر عنهم يلمس أن هناك توجها أمسى حاكماً على مظاهر السلطة نستطيع توصيفه بالرعاتيّة.
والرعاة مفهوم يقابل مفهوم الأوليغارشية، التي تعني حكم القلة لكن في الوقت نفسه يختلف عنه.
لقد تأصّل هذا المفهوم من خلال الممارسات التي يقوم بها من يريد الوصول إلى منصب إداري أو سياسي.
ولهذا بات يشير إلى السياسة أو من يمارسها.
بدأت مرحلة الرعاة منذ 2011، وحتى يومنا هذا وهي تتطور بشكل مضطرد ومتنامٍ.
أخذ الرعاة على عاتقهم حراسة النظام ومنع الوصول إليه من قبل بقية المجتمع، حتى لا يهدّد وجودهم ويضعف هيمنتهم عليه.
وهناك تلازم بات يقوى بين الرعاة والنظام؛ فمن ينتج مضمون النظام من مناصب وزارية وإدارية هم الرعاة ومن يديم وجود الرعاة وسطوتهم النظام نفسه، يبين هذا الترابط بين النظام والرعاة، أن محتوى النظام السياسي الجديد قائم على أشخاص معينين.
تاريخ الرعاة: من الحزبية إلى السلطوية
بعد تغيُّر 2003 كان الجميع؛ الحزبيون والسياسيون متساوين أمام هذه اللحظة.
ومصدر هذا التساوي الرصيد المعنوي للمعارضة لما قبل 2003 والشعور القومي والمذهبي بالاستبعاد عن النظام السابق وسلطته.
إذ وظفوا هذا الرصيد واستغلوا ما وفّر لهم الوجود الأميركي من سهولة الوصول إلى السلطة في تكريس وجودهم في البناء الجاري للمؤسسات ومفاصل النظام الجديد، ولم يعوا ما الذي كان يحصل معهم.
هنا يظهر التقابل بين مفهومي الرعاة والأوليغارشية، وعلى الرغم من التقابل بين مفهومي الرعاة والأوليغارشية، الا أنَّهما يختلفان في التشكٌّل والسلوك والمكانة.
فالأوليغارشية تقوم على أساس الثروة والعلاقة برأس السلطة.
وأما الرعاة فتكوّنت عن طريق امتلاك السلطة والنفوذ اللذين يمهدان للحصول على المال.
لقد اعتمدت الأوليغارشية على توزيع الثروة واحتكارها من قلة، لكن الرعاتية بنيت على كيفية توزيع السلطة والحصول على المال عن طريقها.
في الغالب تكون الأوليغارشية غير ظاهرة ومتخفيّة خلف السلطة، على العكس من الرعاة فهم ظاهرون ويتحركون بشكل علني، لأنّهم يجمعون بين النفوذ السياسي والمال.
إنّهم في العراق اليوم ربما لا يتجاوزن الـ 10 أشخاص وهم ليسوا في مناصب حكومية أو تشريعية لأنهم يرون أنفسهم أكبر منها.
ولكنَّهم يتحكمون في اختيار الاشخاص الذين يتولون إدارة تلك المناصب.
الغريب أنَّ الرعاة في مرحلة معارضة النظام 1968- 2003، لم يظهروا بل كانت الحزبية والرمزية وقلة المال تعيق تشكيل الرعاتية.
أما بعد 2003 فقد ضعفت الحزبية وانحسرت الرمزية وبقي الحصول على السلطة والمال شرطاً لظهور الرعاة.
في العام 2011 قامت احتجاجات في بعض مدن العراق على إثر أحداث الربيع العربي، أسهمت هذه الاحتجاجات في تبلور الرعاة وفتح المجال أمامهم لكي يتكرّس وجودهم في المجال السياسي، إذ نبهت تلك الاحتجاجات الرعاة على أنَّ النظام السياسي الجديد بات يفقد رصيده المعنوي وقد يصل به الحال إلى التغيير.
لذلك أخذ الرعاة بعد هذه المرحلة يهتمون بعاملين أساسيين؛ الراعي الخارجي والمال.
وعلى الرغم من وجود راعٍ مالي/ sponsor وراعٍ سياسي/ shepherd الا أن بعد 2011 استطاع الرعاة حمل الصفتين؛ الرعاية السياسية والمالية.
وهذا الجمع بين الجانبين أنتج اقتصاداً خاصاً للرعاة، إذ شهدنا ظهور مصارف وشركات ومقاولات ومصانع وجامعات تعود ملكيتُها للرعاة، ولا تخضع هذه الكيانات الاقتصادية والمالية لضبط النظام وقوانينه، لأنَّها محميّة بنفوذ الرعاة وقدراتهم.
واستطاع الرعاة خلق مجاميع من الموالين يتوزعون بين الإعلام والصحافة والبرامج التلفزيونية.
وهناك من هم في الظل يحضرون في المجالس الخاصة بالرعاة، وبالتدريج أمسى الموالون يكونوّن حاملاً اجتماعياً غير متشكّل، ولكنّه متفاعل في ما بينه بسبب شبكة المصالح المتبادلة، إنَّ الرعاة والموالين باتوا يشكّلون البناء السياسي بعد 2011.
الرعاة: التحوُّل من المفهوم إلى السلوك
رافقت بناء الدولة العراقية العام 1921 مشكلة ظلت ملازمة لها إلى اليوم، تكمن في غياب حامل اجتماعي يعبّر عن الدولة ويصبح الاساس الاجتماعي الذي تنطلق منه.
في المرحلة الملكية كان الملك والضباط الشريفون من تكفّل بالتعبير عن الدولة 1921- 1958.
دخل الضباط في الصراع مع القوى السياسية الناشئة منذ ثلاثينيات القرن الماضي أفرغت المرحلة الملكية من قدرة التأسيس والبناء وانتهت باستيلاء العسكر على السلطة وبات ضباط الجيش من يمثّل النظام 1958 - 1968.
منذ وصول البعث إلى الحكم بات الحال مختلفاً، حيث أخذ الحزب الدور الاجتماعي والسياسي ليصبح بديلا عن الحامل الاجتماعي المرتبط بالدولة.
وبالتدريج أزاحت الدائرة الخاصة برأس النظام فاعلية الحزب وبات دوره الاجتماعي يتقلص.
مهدت عوامل كثيرة لتقلّص دور الحزب؛ منها الانهاك الذي سبّبته الحرب الايرانية – العراقية وحرب الخليج الثانية 1990 وما ترتب عليها من آثار اقتصادية واجتماعية، فضلا عن ذلك إطلاق الحملة الايمانية التي سلبت الحزب دوره الايديولوجي والعقائدي.
ومع كل هذه المتغيرات لم يظهر الرعاة منذ 1968 - 2003، لأنَّ دائرة النظام السابق يتحكّم بها رأس النظام وحدّدها بأشخاص معيّنين تربطهم به الصلة العائلية والعشائرية والحزبية.
ولهذا حينما نبحث في تلك المرحلة عن أصحاب رؤوس الاموال لا نجد لهم مكانة سياسية أو نفوذاً على النظام ومؤسساته الا من خلال رضا رأس النظام عنهم.
بعد 2003 انهار بناء النظام السابق وأصبح الوضع الجديد يتطلب بناء مختلفاً.
مثَّل تغيير 2003 فرصة أمام الرعاة، لأنَّه أتاح لهم الحصول على مناصب النظام الإدارية والحكومية.
إذ يكفي لو أخذنا نموذجاً لسيرة أحد الرعاة منذ 2003 ولغاية الآن، نكتشف أنَّه مرّ بعدّة مناصب جعلته يبني نفوذاً وشبكة علاقات فضلا عن الحصول على المال، حيث دفعت له أموالٌ كبيرة في بداية تكوين النظام جاء جزءٌ منها تحت عنوان “المنافع الاجتماعية” التي منحت الرعاة وفرة مالية واسعة.
طرح توبي دوج في كتابه “العراق من الحرب إلى السلطوية الجديدة”، الذي أصدر ترجمته مركز رواق بغداد للسياسات العامة العام 2022 أنَّ معضلة النظام الجديد، تكمن في التحوّل من النخبة الشاملة إلى النخبة الحصرية.
إذ قدم ممثل الامين العام للأمم المتحدة في العراق سيرجيو فييرا دي ميلو 1948- 2003 فكرة تأسيس مجلس الحكم إلى جي غارنر الحاكم العسكري لقوات التحالف لكي يصبح أول هيئة سياسية رسمية، أراد منها دي ميلو إنتاج النخبة الشاملة.
إنَّ ما أراده دي ميلو كان مثاليا وخارج الواقع الاجتماعي الذي نخرته وعطّل إمكانياته النفسية والسياسية فترة حكم استبدادي استمرت لـ35 عاما، لكن من انضم إلى مجلس الحكم عمل على تعطيل مفهوم النخبة الشاملة من خلال الصراع الذي نشأ منذ اللحظات الأولى بين أعضائه، الذي أعاقها واستبدلها بالنخبة الحصرية التي مثَّلت الجماعات المذهبية والقومية.
وبالتدريج مهّدت النخبة الحصرية لظهور الرعاة الذين باتوا يكتسبون قدرات وإمكانيات نتيجة وجودهم في السلطة.
أثبت الرعاة أن لا نفوذ للنظام ومؤسساته الا من خلالهم ولهذا تبلورت عندهم قيم ومعايير صاغت الرعاتية سلوكاً وممارسة، فالقيم والمعايير لا تشبه القيم والمعايير الاجتماعية التي يمارسها المجتمع.
إنَّ الرعاتية تقطع مع الثابت من القيم وتعتمد المتغيّر منها الذي تؤطره المصلحة والولاء وأهمية المال كمصدر تحافظ به على الوجود والاستمرار في السلطة.
الرعاة: من بناء النظام إلى تقاسمه
مرَّ بناء النظام بعدّة تحولات لم تكن على خط مستقر من العمل والتأسيس بل شهد النظام انتكاسات كبيرة ومؤثرة جعلت من يريد إدارته أن يكون الأقوى والأكثر فاعلية ويمتلك المقومات الثلاثة الاساسية؛ القوة والمال والراعي الخارجي.
ولهذا عمل الرعاة على تسويق مقولة إنَّهم حرّاس النظام وسبب ديمومته وأعطتهم صفة الحراسة امتلاك هذا النظام؛ لذلك استعاضوا عن الشرعية الدستورية والاجتماعية بشرعية وجودهم كرعاة وممثلين للجماعات الشيعية والكردية والسنية. لقد صُنِعت شرعية الرعاة من النفوذ والمال والسلاح. والتفاوت بين الرعاة في القدرات أوقع النظام تحت طائلة التقاسم فيما بينهم إذ أخذ كل واحد منهم حسب قدراته جزءا من النظام. أعاق التقاسم بين الرعاة نمو الشرعية الطبيعية للنظام التي تعتمد على الرضا والقبول من المجتمع. وحينما نبحث عن خريطة النفوذ الاقليمي والدولي في العراق علينا الرجوع إلى ماضي الرعاة أثناء عملهم السياسي قبل وبعد 2003، فربما نجد بعضاً منهم يمتلك مسافة ابتعاد وتحرّك بعيدا عن الراعي الخارجي منحته قليلا من المناورة والعمل. ولكن بات عامل الرعاية الخارجية حاضرا في ذهن كل من يريد الوصول إلى السلطة أو تولي منصب في النظام الجديد بعد 2003.
وأدى امتلاك الرعاة كل منهم جزءا من النظام إلى اختلال علاقات القوى داخل المجتمع العراقي.
وتبلور هذا الاختلال في تنعُّم فئة من المجتمع بما لدى النظام من مال ومكانة والهيمنة على مؤسساته وتولي إدارتها أو السيطرة عليها على حساب فئات أخرى.
ولهذا أخذت تشهد مؤسساته - النظام - وجود أشخاص من “حزب، عشيرة، طائفة، قومية” معينة.
إن جمع الرعاة بين المال والسياسىة أنتج شكلا مختلفا وغير مسبوق من الهيمنة والنفوذ، إذ استطاع الرعاة الاحتفاظ بنفوذهم داخل النظام وهم خارجه ولا يحتلون فيه منصباً أو صفة رسمية، ولكنَّهم حافظوا على صفتهم السياسية.
زاد النظام السابق 1968 - 2003 من محنته في نفاد شرعيته بعد غزو الكويت وأخذ تدريجيا يخسر مقومات وجوده نتيجة تراكم الاخطاء وصراعه مع المجتمع وأصبحت قدراته الردعية تضعف، ثم وصل بعد ذلك إلى مرحلة توفير عامل التدخل الخارجي الذي تسبب في انهياره. أقام النظام قبل 2003 سلطته على أساس شخص واحد كان رأس النظام وما تحته بطانة من أفراد عائلته وحزبيين موالين وأقرباء.
في النظام الجديد تمَّ نيل الشرعية من جانبين تاريخي – سياسي ودستوري، ظل مضمون هذه الشرعية مقبولا ومرضيا عنه من قبل المجتمع لغاية 2011.
ولكن بعد ذلك أصابها الخلل وأخذت تتقلّص مساحتها عند أفراد المجتمع وينحسر الرضا عنها عند فئات معينة من المجتمع.
يربط الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو
1926 - 1984 بين نشوء السلطة وظهور المقاومة في أي مجتمع تحكمه - سلطة - والمقاومة لا تعني المسلحة فقط وإنما تكون على نوعين مادي ومعنوي؛ المقاومة المادية قد تأخذ شكل المسلحة التي تهدف إلى إضعاف النظام وإزاحته.
وهناك شكلٌ آخر من المقاومة المادية هو العصيان أو الاحتجاج غايته الكشف عن وجود خلل في الشرعية والقبول من المجتمع.
أما المقاومة المعنوية التي تظهر بالعزوف عن المشاركة في تجديد شرعية النظام سواء كانت عن طريق الانتخابات أو التأييد وهذا النوع من المقاومة ينتج انفصالاً غير مرئي بين المجتمع والنظام.
إذ يصل حال النظام حين ينشأ هذا الانفصال إلى أن شرعيته تصبح مرهونة بقبول فئات اجتماعية معينة من المجتمع. يكون للرعاة دور أساسي وحيوي في بقاء هذه الفئات؛ لأن من ينتج هذا الشكل الاجتماعي – الفئات – التي تمد النظام بشرعيته هم الرعاة. ولذلك هناك تلازم بين شرعية النظام وبقاء الرعاة في هذه المرحلة. رافق تنامي دور الرعاة في الوضع السياسي الجديد نشوء قوى تمتلك السلاح وكان للصراع الاهلي الذي دار في 2006 - 2008 دور فاعل في تعزيز حضورها. حملت هذه القوى صفتين متناقضتين؛ هما إسناد وظيفة حراسة النظام التي يقوم بها الرعاة، وفي الوقت نفسه تمثّل تهديداً له، لأنَّ هذه القوى وسلاحها لا يعدّ النظام مرجعيتها السياسية.