الطبيب البيطري حاضرٌ في الميدان غائبٌ عن الأذهان

ريبورتاج 2023/01/24
...


  علي غني

  تصوير: مصطفى الجيزاني

 لا يقل صعوبة عن الطب البشري، لأن مدة الدراسة فيه تمتد إلى (5) أعوام، ويعده الكثيرون حائط الصد الأول الذي يحمي الإنسان من الأمراض التي تتسبب بها الحيوانات، هو الطب البيطري في العراقي الذي يعاني الإهمال سواء في توفير الوظيفة أو الميدان الحقيقي وانحسار التقديم عليه بات واضحاً في قبولات الجامعات في عموم العراق، إذ تشير الإحصائيات التي أصدرتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى أنه تم قبول (2145) طالباً في كليات الطب البيطري للعام الدراسي (2022 - 2023)، في حين تم قبول (13599) طالبا في المعاهد الطبية في العراق، فما السبب وراء هذا الانحسار؟ ولماذا ازدادت كليات الطب البيطري مع معرفة أصحاب القرار قلة القبول بها، فهل هذا مؤشر خطير علينا أن نراجع فيه كل خطط الطب البيطري في العراق؟.

ركيزة أساسية

يرى الطبيب البيطري مؤمن حسين الذي مضى على تخرجه (6) سنوات أن سبب انحسار التقديم على كليات الطب البيطري، هو عدم توافر التعيينات للخريجين على الرغم من وجود قانون التدرج الطبي البيطري الذي صوت عليه مجلس النواب عام 2019، لكنه لم يفعل لعدم توافر الغطاء المالي له. أما السبب الآخر من وجهة نظر حسين فهو عدم احتضان القطاع الخاص للأطباء البيطريين وحرمانهم من العمل بالرغم من كونهم ركيزة أساسية في الإشراف على حقول الدواجن، والأسماك وتربية الحيوانات، إلى جانب ضعف الثقافة بتفهم هذا التخصص في المجتمع العراقي، بشأن عمل الطبيب البيطري، الذي يشابه تماماً كليات الطب البشري إلى حد بعيد، فالدراسة فيه تستغرق خمسة أعوام. وربما تستغرب أنه منذ عام 2002 ولغاية 2022 لم يعين أي طبيب بيطري، وهناك إحصائية بأن عددهم قارب الـ (5 آلاف) طبيب بيطري، في حين كان نظام التعيين المركزي يشملهم قبل عام 1989. 


تكدس كبير

عضو مجلس نقابة الأطباء البيطريين العراقيين (المركز العام) الدكتور علاء حسين عبد الكاظم أكد أن إيقاف قانون التدرج الطبي منذ عام 1989، كان بداية الكارثة، إذ تسبب هذا القرار بتكدس الأطباء البيطريين وتوجههم إلى أعمال لا تمت لتخصصهم بصلة.

ووفقاً لعبد الكاظم فإن الحكومات التي تعاقبت على السلطة لم تشجع المستثمر الأجنبي للقدوم إلى العراق وإقامة المشاريع التي لها علاقة بالثروة الحيوانية، ومنتجاتها التي تحتاج إلى أطباء بيطريين، كما أن هناك افتقاراً للتنسيق الحقيقي بين النقابة والمؤسسات الحكومية. 

وكذلك غياب دور الحكومة في إقامة مشاريع خاصة بدعم مالي، كالقروض الميسرة أو الخالية من الفوائد وغياب الدورات التدريبية في بلدان العالم المتقدمة، فضلاً عن إهمال الحكومة للجانب الفني في القطاعات الخاصة، إذ يجب أن تلزم الحكومة وبقانون خاص أصحاب القطاع الخاص بأن يستعينوا بالأطباء البيطريين، للإشراف على مشاريع الثروة الحيوانية، لا سيما في ما يخص العلاج والوقاية.

ولغرض تحفيز الطالب للتوجه إلى دراسة الطب البيطري، يعتقد عبد الكاظم أنه يجب الاهتمام بالتوعية الإعلامية بأهمية الطب البيطري، عبر توسيع دائرة عمله بصورة أكبر من الموجود حالياً ليتعدى الدور التقليدي في مكافحة الأمراض والتشخيص والوقاية، ليشمل التحليل والمختبرات وإنتاج الأدوية إلى جانب توفير مساحة تلفازية يومية للوقوف على الثروة الحيوانية ودور الطبيب البيطري في ازدهارها. 


توفير المستلزمات

عميد كلية الطب البيطري بجامعة بغداد الأستاذ الدكتور حميد علي كاظم أوضح قضايا متعددة منها أن تطور هذه الكليات في العراق، لا بد أن توضع له آلية تخطيط صحيحة من قبل وزارة الزراعة، كون مخرجات الطب البيطري تصب في خانة الزراعة، وهناك عدد كبير من المقبولين في هذا التخصص لا تتوفر لهم أهم المستلزمات للدراسة البيطرية كحقول الدواجن، والحيوانات والأراضي الشاسعة لغرض التجريب، فضلاً عن عدد التدريسيين الذي يسد الحاجة.

وتابع: أن وجود (16) كلية طب بيطري في العراق، (وهذه الإحصائية مع كليات إقليم كردستان) يراد له إمكانيات كبيرة، فألمانيا الذي عدتُ تواً منها يبلغ عدد نفوسها (150) مليون نسمة توجد فيها ثلاث كليات للطب البيطري، إذن هناك سوء في التخطيط كما ذكرت، لذلك يجب إعادة النظر بجميع الخطط لكليات الطب البيطري في العراق.

مبيناً أنه إذا أقر العمل بقانون التدرج الطبي البيطري، الذي تمت الموافقة عليه من قبل مجلس النواب والوزراء في العام الماضي، وبانتظار التخصيصات المالية للعمل به، فمن المتوقع أن معدلات الطب البيطري سترتفع إلى (90) فما فوق.


ثروة مهمة

ويرى الطبيب البيطري والاستشاري في مستشفى ذي قار البيطرية الدكتور جليل عبد غاطي أن دمج الكليات البيطرية أو تقليل المقبولين فيها باعتبار أن فائضاً من الخريجين، يزداد سنوياً ولو راجعنا تاريخ تلك الكليات وكيف تم اقناع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بفتحها لوجدنا أنها اقترحت من قبل أطباء بيطريين من حملة الشهادات العليا، وبررت تلك الخطوات بوجود عدد كبير من الحيوانات وحاجة البلد إلى هؤلاء الأطباء، لرعايتها ولأن تعيين الأطباء البيطريين مركزياً قد توقف بشكل فعلي منذ مطلع عام 1990 فهذا أدى إلى زيادة العاطلين عن العمل من هذا التخصص، وتشير الإحصائيات إلى أن البلاد تحتاج إلى  70 أو100 طبيب سنوياً تقريباً.


فرص عمل

 وتابع جليل أنه من واجب النقابة أن تجد فرص العمل للأعضاء، ولذلك لم تعترض على فتح الكليات باعتبارها مراكز عمل تستوعب الأطباء البيطريين عموماً، وحملة الشهادات العليا خصوصاً، فسكتت عن الأمر ولكنه كان حلاً تضاعفت فيه مشكلتها مع الخريجين، من حملة البكالوريوس وأين يعملون وصادف ذلك مع الوضع المالي للدولة في السنين الأخيرة، وأصبح ضغط الأطباء الجدد على النقابة من أجل التعيين لا يطاق ولا يمكن حله في الأفق القريب. 


اختبار علمي

ويظن جليل أن أحد الحلول الموجودة هو تأسيس مرجعية علمية بيطرية عليا في العراق من قبل النقابة والحصول على اعتراف الدولة بها، ثم وضع اختبار علمي في الطب البيطري على مستوى عالمي (أميركي أو من غرب أوروبا) يخوضه الخريجون من كليات الطب البيطري ومن يجتزه فقط  يكون مجازاً للتعيين في دوائر الدولة أو القطاع الخاص.

إن هذا المقترح تنبع أهميته من أن هذه المهنة تحتاج إلى إمكانية عالية من الذكاء والرغبة لدى الطالب المتقدم لخوض غمار الحياة كطبيب بيطري، وليس لأن معدله مقبول في هذه الكلية فقط.

إن القدرة على تشخيص المرض وإجراء الجراحة والتوليد والرعاية التناسلية، والعمل في مجال الدواجن والأسماك وفي مجال المختبر يحتاج إلى كم هائل من المعرفة المستقاة من عشرات العلوم الطبيعية المختلفة.


غلق الكليات

 ويكشف لنا الطبيب الاستشاري الدكتور حسن عبيد الجنابي في كتابه (سطور من تاريخ الطب البيطري في العراق المنشور عام 2009) أن الملاك البيطري العراقي كان يعمل ليلاً ونهاراً بدون ملل منذ عام 1920 ولغاية تأسيس كلية الطب البيطري بجامعة بغداد عام 1955، وعلى الرغم من قلة المؤسسات البيطرية آنذاك إلا أن العمل كان متواصلاً والإنتاج الحيواني واسعاً ويوزع بين الفقراء مجاناً في جميع المناسبات الوطنية والدينية، أما الفائض فيصدر خارج الحدود والملاك البيطري يمتطي الحصان أو البغل ليقوم بمهمة الإرشاد البيطري وعلاج الحيوانات والتلقيحات المستمرة. 


معامل الأدوية

ويستمر الجنابي في سرده بأن الكليات والمعاهد توسعت حالياً في أنحاء العراق. إذ وصل عددها إلى (10) كليات تخرج سنوياً ما يقرب من (2000) طبيب مع (500) (معاون بيطري)، منذ 1955 وحتى  2017 تجاوز عدد الأطباء البيطريين وملاكاتهم أكثر من مليون، لذلك اقترح غلقها لمدة عشر سنوات وتنسيب ملاكها في العمل الميداني والإشراف على تشغيل مؤسسات الثروة الحيوانية المعطلة (حقول الغالبية والمرادية مثلاً)، كما اقترح الجنابي أيضاً بناء صالات جراحية، ومنها المختبرات ومعامل الأدوية واللقاحات ونشر المؤسسات البيطرية في مناطق بعيدة. وإطلاق السلف لحقول الدواجن والعجول والمواشي، وأبقار الحليب وحماية أصحابها معنوياً ومادياً وتوسيع الإنتاج المحسن، إلى جانب إنشاء المعامل التي لها صلة مباشرة بالثروة الحيوانية مثل الأثاث والملابس، فضلاً عن الألبان ومشتقاتها، وكذلك التعليب وصناعة الأحذية الجلدية، إضافة إلى العلف على أن يشرف عليها المدير الاستشاري للمنطقة (الطبيب البيطري). فضلاً عن إحالة من تجاوزت خدمتهم أكثر من 25 سنة على التقاعد واقتراح قانون خدمة العيادات البيطرية الخاصة واعتبارها خدمة فعلية للترفيع والعلاوة والتقاعد وجباية البدل النقدي بدلاً من ذهابه إلى جيوب الفاسدين.