حكايات نيسانية {2}

الصفحة الاخيرة 2019/04/08
...

حسن العاني
من دون مقدمات وجد مئات الاعلاميين والصحافيين انفسهم خارج نطاق الخدمة بعد حل وزارتهم، وربما كانت المحنة المتعبة، أن لا أحد يدري أين يذهب وكيف يعيش وماذا يعمل.. ومع إن بناية وزارة الاعلام كانت خالية من أي مسؤول او مدير او رئيس تحرير او وكيل، زيادة على وزير هارب لم تعرف وجهة هروبه، ولكنها افضل مكان لتجمع اعداد كبيرة من الاعلاميين، في حين توزعت مجاميع اخرى منهم على اكثر من مكان، والهدف هو التعرف على مصيرهم وعلى لقمة الخبز...
كنا نقف امام بوابة الوزارة نتبادل الاحاديث والاراء ونتقصى الاخبار ونضرب اخماساً في اسداس، ولا شيء في الافق سوى مزيد من الحيرة والقلق، ولو جاز توصيف الوضع في الايام القلائل التي اعقبت 9 نيسان امام الوزارة، فيمكن ايجازه على النحو التالي: فريقان يتجمعان في ذلك المكان، الاول خارج البناية (عاطل عن العمل وقلق وخائف من المستقبل)، والثاني في داخل المبنى (يعمل بنشاط، وفرص العمل متوفرة أمامه أكثر من حاجته، ورأسه باردة، والمستقبل امامه مشرق)، هذا هو الوضع على وجه التحديد!!
بناية الوزارة تتكون من عشر طبقات، كل واحدة مخصصة لدائرة اعلامية كالوكالة ودار المأمون ومجلة "الف باء"..الخ، وفي كل "طبقة" مجموعة لصوص تتولى تفكيك الاجهزة الكهربائية ونقلها مع بقية الاثاث خارج المبنى، وذلك عن طريق ربطها بحبال متينة وطويلة، وانزالها الى الشارع، حيث توجد مجاميع اخرى، مهمتها فك الحبال وتحميل الاغراض في عربات او مركبات.. وهكذا كان العمل يجري على قدم وساق..
استفزني المشهد وقررت الصعود الى الطبقة الخامسة، حيث مجلة "الف باء" التي التحقت بها في اذار 1986، ولكن الوصول صعب، حيث لا كهرباء ولا مصاعد كهربائية، والسلالم شديدة الظلام، ولكنني لم اقاوم رغبتي.. وبأنفاس متقطعة ومزيد من اللهاث، وصلت الى المجلة، وتحديداً الى غرفتي في الوقت المناسب.. كان أحد (الحواسم) قد اقترب من الكرسي الخاص بي، لكي يسحبه ويربطه بالحبل، شعرت بأنه يسحبني ويريد ربطي، استوقفته بلطف وقلت له بكثير من التذلل (إبني حبيبي.. أترك هذا الكرسي.. وبعدين من أروح شتريد سوي)، اعتقد ان الفتى المراهق تهيأ له إنه في مواجهة رجل مجنون، ولعله اراد الضحك عليّ (ميخالف عمو.. بس انطيني 25 ألف دينار) اكتشفتُ انه لم يكن يمزح.. قلت له (انطيك 15 ألف) وفيما نحن نتحاور حول السعر صاح احدهم (إجه صدام)، وفجأة سقط كل شيء من ايديهم، وبحركة لا ارادية ارتفع هتافهم (بالروح بالدم.. نفديك يا صدام) وما هي الا لحظات حتى تبين ان (صدام) الذي ظهر بوجه اسود هو المسؤول الاول عن المجاميع والبناية بأكملها، ولكن الذي اذهلني ان هذا الشاب من ابناء محلتنا، ويعرفني جيداً مثلما اعرفه ، كان هو من يتولى الاشراف على معالم الزينة والاحتفالات كلما حلّت مناسبة عيد ميلاد صدام.. صافحني وسألني ان كانت هناك مشكلة فأوضحت له الخلاف على السعر.. وهنا صاح بالمراهق الذي كان يفاوضني (لك حيوان.. شدعوه تاخذ 25 ألف .. أُخذ من الاستاذ خمس تالاف دينار بس)، وهكذا غادرت الوزارة وهم بمن فيهم صدام يعتقدون انني مجنون، لانهم لم يعرفوا في يوم من الايام حلاوة الكرسي!!