فارس حامد عبد الكريم
يسود الاعتقاد لدى العديد من الناس بمقولة مفادها بأن (القانون لا يحمي المغفلين)، فما هو مدى مصداقيتها وماهو مصدرها في الأصل؟ المقولة بهذا الإطلاق لا أساس لها من الصحة القانونية، ذلك أن القانون يحمي المغفلين وجل مظاهر الضعف الانساني من استغلال المستغلين وكيد الكائدين ونصب المحتالين بلا أدنى شك.
واذا كانت هذه المقولة قد تُرجمت من أحكام القضاء الأميركي، الذي يتبنى النظام القانوني الانكلوسكسوني المرن (دول الشريعة العامة: إنگلترا والولايات المتحدة وكندا والدول الناطقة بالإنگليزية عامة)، الذي يستند في أحكامه إلى الأعراف والسوابق القضائية كقاعدة عامة.
فإن هذه المقولة لا تصلح للنظام القانوني اللاتيني (المطبق في فرنسا، بلجيكا، أسبانيا، إيطاليا، ومعظم البلدان العربية ومن بينها مصر والعراق)، الذي يستند بصفة عامة في صياغة تشريعاته إلى أساس من قواعد قانونية منضبطة عامة ومجردة.
فهي لا تدخل في النظام القانوني الجنائي مطلقاً، حيث يعد التشريع مصدره الوحيد، لأنها ليست من نصوصه ومبادئه العامة فترى قوانين العقوبات في العراق ودول المجموعة تعاقب على مجموعة واسعة من الجرائم، التي تتضمن معنى الاستغفال، كالاحتيال والغش التجاري وخيانة الامانة وانتحال الصفة والتزوير، الذي يستخدم لأغراض الاحتيال واصدار صك بدون رصيد وكذلك وسائل الاستغفال في نطاق العقارات.
وفي نطاق القانون المدني نرى أن المشرّع قد توسع في حماية المُغفلين وردع المستغفلين، ففي نطاق عوارض الأهلية مثل الجنون والعته والسفه والغفلة (ذي الغفلة)، فقد أورد المشرّع العراقي مثلاً نصاً صريحاً بحماية ذي الغفلة، وكذلك في نطاق عيوب الإرادة كالإكراه والغلط والتغرير مع الغبن والاستغلال .... فضلاً عما ورد في قوانين أخرى كقانون رعاية القاصرين.
وعليه لا يمكن الاستشهاد بهذه المقولة أو الدفع بها من قبل المحامين أو قبولها من قبل القضاة في العراق ودول المجموعة اللاتينية على سبيل الحقيقة القانونية، الا في حدود ضيقة وعلى سبيل (الحقيقة القانونية) وفي نطاق معاملات القانون المدني حصراً، كما لو قام شخص بإقراض آخر مبلغٍ من المال دون اثباته تحريريا بسند فهنا إذا أنكر المدين الدين لا يستطيع القانون حماية الدائن، لأنه لم يتخذ الاحتياطات اللازمة لحماية حقه.... (باستثناء ما توفره اليمين الحاسمة للدائن من حماية تقوم على اعتبارات ضمير الخصم... واليمين الحاسمة هي يمين يوجهه الخصم إلى خصمه ليحسم النزاع، عندما ينقصه الدليل لإثبات ادعائه، وينكر عليه خصمه صحة ما يدعيه، فيسعفه القانون في موقفه العاجز هذا بهذه لوسيلة، فيحتكم بها إلى ضمير خصمه، فبمقتضى توجيه اليمين يعتبر المدعي قد تنازل عن دعواه، إذا حلف المدعي عليه بالإنكار وفي المقابل يعتبر القانون المدعي عليه إذا نكل عن اليمين مقرا بصحة دعوى
المدعي.
ومن الناحية النظرية يتحول التزام المدين من التزام مدني إلى التزام طبيعي يعترف به القانون ولكن لايحميه بدعوى، ومعنى ذلك امكانية عودته إلى التزام مدني متى ما توفر الدليل عليه.
- ما هو مصدر هذه المقولة؟
وردت هذه المقولة في حكم إحدى المحاكم الأميركية (حيث تطبق مبادئ النظام القانوني الأنكلو أميركي)
وملخص وقائع القضية أن شخصاً ما قد أعلن انه اذا أرسلت دولاراً واحداً إلى هذا البريد فمن الممكن ان تصبح مليونيراً.. فقام الملايين من الأميركيين بإرسال دولار إلى البريد المعلن عنه، لقلة المبلغ وعلى سبيل المقامرة، فأصبح المُعلِن مليونيراً!، وعندما رفع الضحايا شكوى عليه إلى القضاء بداعي الاحتيال أصدر القاضي حكمه بالبراءة على المتهم وسَبَب حكمه كالأتي:
(ان القانون لا يحمي من يتعاملون بخفة)
أي أن مجرد الكذب لا يشكل قضية، وقد يكون الحُكم قد تأثر بالمقولة الغربية الشائعة التي تفيد بأن (جل ضحايا الاحتيال هم من الطماعين).
وقد ترجم الحكم إلى اللغة العربية بصورة غير دقيقة بزعم عدم الترجمة بحرفية النص إلى (ان القانون لا يحمي المغفلين)، وبهذا المعنى المترجم غير الدقيق قد تؤدي هذه المقولة إلى تشجيع النصابين والمحتالين على إتيان الجريمة، ولكن (الجهل بالقانون لا يعد حجة) في نهاية
الأمر.
ومن نظير ذلك في القانون المدني العراقي أن المشرّع العراقي اعتبر ان مجرد التغرير (استعمال اساليب احتيالية من أجل إيقاع المتعاقد في غلط) لا يعتبر كافياً لإيقاف العقد، بل يجب ان يقترن التغرير مع الغبن، ومن صور التغرير مبالغة التجار في وصف بضاعتهم إلى حدود الكذب.
فالمشرّع هنا لا يعاقب على مجرد الكذب (التغرير)، ولا يوفر الحماية القانونية لمن كان ضحية الكذب المجرد ما لم يلحقه غبن
فاحش.
وعليه نستطيع القول إن القانون، كقاعدة عامة (لا يحمي ضحايا مُجرد الكذب).
النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية.