مسلم غالب
ماهي الأبعاد الاجتماعية للعلم؟، وما هي نوع العلاقة بين المعرفة العلميَّة والمجتمع؟، هل يمكن اعتبار المعرفة على أنّها مستقلة عن الأبعاد الاجتماعيَّة وتتمتع بمعايير موضوعيَّة تمارس من خلالها استقلاليتها؟، أم أن المعرفة العلمية شأنها شأن أي عنصر ثقافي آخر في المجتمع وأن المؤسسة العلمية لاتختلف عن سائر المؤسسات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية في المجتمع، فتدخل في علاقة تأثير وتأثر؟.
ما هي علاقات السلطة بالمعرفة العلميّة؟ وكيف تمارس السلطة في المجال العلمي؟، هل يمكن وصف تاريخ التطور العلمي بالذكوري كما تزعم الحركة النسويّة، وأن العلوم كانت حكرا على الرجال من دون النساء؟.
تشكل هذه الأسئلة الهاجس العلمي لفرع من علم الاجتماع یُدعی سوسیولوجیا العلم.
تعد سوسيولوجيا العلم أحد فروع سوسيولوجيا المعرفة، وكلاهما ينتمان إلى العلم الذي نشأ في منتصف القرن التاسع عشر واطلق عليه أغست كونت، أحد مؤسسيه، اسم سوسيولوجيا أي علم الاجتماع. لم تغب دراسة المعرفة و الفكر منذ البداية لدى علماء الاجتماع القدامى كـ : ماركس، دوركايم وفيبر لكنها لم تأخذ حيزا خاصا لها إلا بعد تطور النظرية الإجتماعية في ما بعد والتركيز على دراستها من منطلق سوسيولوجي كما فعل منهايم، إذ كتب عن هذا الحقل ونظّر له. وحاول التمييز بين الفكر المعرفي والأيديولوجي. لكن اتجاهه بقي في النهاية أقرب إلى الفلسفة. يدرس العلم، الطبيعة وتدرس السوسيولوجيا، العلم. وكان قد مهّد لهذا الموضوع فلسفة العلم. فالفلسفة غيّرت اتجاهها في العصر الحديث وصارت تركز على دراسة المعرفة بدلا من دراسة الوجود. طبعا لم تغير المنهج وظلت ملتزمة بالمنهج العقلي والفلسفي. فكان حصيلة هذا التحول الابیستمولوجي، تكوين فلسفة العلم بشتى فروعها. وجاءت النظرة السوسيولوجية للمعرفة، نتيجة لفلسفة العلم.
اهتمت سوسيولوجيا المعرفة بالفكر بوجه عام وحاولت تبيين الصلة والعلاقة بينه والأطر الاجتماعية. جاءت سوسيولوجيا العلم مركزة على المعرفة العلمية من دون غيرها وكان ذلك عبر كتابات ميرتون، عالم الاجتماع الأمريكي، إذ درس المؤسسة العلمية من منظور نظرية البنائية الوظيفية، إحدى نظريات علم الاجتماع المعروفة، واعتبرها كسائر المؤسسات الاجتماعية التي يتكون منها المجتمع. ميرتون الذي وضع مصطلح سوسيولوجيا العلم فتح الباب أمام الدراسة السوسيولوجية للمعرفة العلمية لكن أتهم اتجاهه النظري بالمحافظ إذ لم يتطرّق لعلاقات السلطة والعناصر الأيديولوجية التي قد تظهر عندما تتعدى الدراسة من السطح وتدخل في العمق. كانت النقلة النوعية والتطور الآخر لسوسيولوجيا العلم على يد تامس كون، العالم الأمريكي الذي تحدث عن الثورات العلمية وزعم ان العلم عبر تاريخه لم يسر بحركة منظمة وهادئة بل مر بهزات عنيفة في كل مرحلة يتغير فيها التصور السائد للعلم. البارادايم أو الأنموذج السائد العلمي، هو من يحدد القواعد، والمبادئ، والمفاهيم فيتحول إلى الأمر المقبول العام. وأي نقد أو تشكيك لهذا الأنموذج العلمي السائد يقابل على أنّه شذوذ معرفي فيطرد ولا يؤخذ بالحسبان. لكن عندما تكثر هذه النظريات الشاذة والمغايرة لما اتفق عليه المجتمع العلمي في فترة ما، تحصل ثورة معرفيَّة تطيح بالنظرية السائدة وتسلّم مقاليد الحكم بيد النظرية الجديدة التي تصبح هي السائدة. ويرى كون أن تاريخ العلم هو عبارة عن هذه الثورات وليس التغيير المنتظم. مهّد هذا التطور في تاريخ سوسيولوجيا العلم إلى ظهور نظريات علمية تركز على دراسة الخطاب العلمي، وترصد علاقات السلطة في العلم.
تدرس السوسيولوجيا الظواهر الاجتماعية بمنهج علمي وتركز على الحياة الاجتماعية للإنسان وكل ما يرتبط بهذه الحياة. والمعرفة العلمية بما أنها منتج اجتماعي تصبح مادة للدراسة السوسيولوجية، ويدرسها علم الاجتماع كما يدرس سائر الظواهر الاجتماعية. فالعلم الحديث لا يتكون بمعزل عن المجتمع، والسلوك العلمي للعلماء يبقى في آخر المطاف سلوكا بشريا لا يختلف كثيرا عن سلوك البشر السياسي، والاقتصادي، والديني، والثقافي، ..الخ. وهذه نظرة جديدة بالنسبة للعلم. فالعلم اعتاد أن يدرس الظواهر الطبيعية لا أن يُدرس كظاهرة. وليس العلم وحده الذي يقع تحت المجهر السوسيولوجي، بل هكذا الحال بالنسبة لمنافسه القوي أي الدين. كلاهما يتكلم عن الحقيقة ويملك سلطة في مجاله. سنختصر الحديث على المعرفة العلمية ونترك الحديث عن المعرفة الدينية إلى مجال آخر.
فتحت النظرة السوسيولوجية للعلم آفاقا جديدة وكشفت العلاقات الاجتماعية غير المعلنة التي تكتنف الإنتاج العلمي، حيث كان المعتقد السائد ان المعرفة العلمية تنتهج الحيادية وتركز على الحقيقة بعيدا عن الانحيازات والشوائب التي قد تكون في الوجوه الأخرى للمعرفة ولا مكان لها في ظل الموضوعية العلمية. لكن سوسيولوجيا المعرفة العلمية أظهرت خطأ هذا المعتقد و كشفت اللثام عن ملابسات السلوك العلمي وجعلته لايختلف عن السلوك البشري في قواعده وانماطه. صياغة الحقيقة العلمية لا تختلف عن نظائرها من حقائق الحياة الاجتماعية. وتشبه أي أيديولوجيا أخرى من الأيديولوجيات البشرية. العلم كأيديولوجيا، هو ما يطرحه المنظور السوسيولوجي. فينزل العلم من سماء امتلاك الحقيقة والتفرد بها من دون المعارف البشرية الأخرى، إلى أرض الدراسة والتدقيق والمحاسبة، ويفرض عليه التواضع وترك النظرة الفوقيَّة والاستعلائيَّة.
وأخيراً لا بدَّ من الإشارة إلى أن المنظور السوسيولوجي يعتمد المنهج العلمي في دراسة العلم. ولا تناقض في الأمر. فكما أشرنا آنفا وحدها الفلسفة تدرس العلم من منظور فلسفي وعقلي، وعلم الاجتماع لا يختلف عن نظائره من العلوم الإنسانية ولا يبتعد عن المنهج العلمي حتى في دراسته للعلم نفسه. وهذا ما يجعل سوسيولوجيا العلم والمعرفة العلمية، بعيدة عن الفلسفة وقريبة من الفروع الأخرى لعلم الاجتماع.