«بونراكو».. مسرح الدمى الياباني

ثقافة 2023/03/20
...

   د. حسين علي هارف


يشكل مسرح الدمى الياباني (بونراكو) مع مسرح النو، ومسرح الكابوكي، تراثا ثقافيَّاً ومسرحيَّاً أصيلا. ومعروفاً في اليابان وفي العالم على حد سواء. فقد أعلنت منظمة اليونسكو أن مسرح الدمى الياباني (المتفرد في خصوصيته الفنيَّة والثقافيَّة) هو أحد أعمدة التراث الإنساني العالمي (الشفهي وغير المادي). . ويسلط كتاب (مسرح الدمى الياباني) الذي ضمَّ مجموعة من المقالات المترجمة من قبل د. قاسم محمد الأسدي، الضوء على هذا المسرح ونشأته وتطوره وقواعده الفنيَّة.


فضلاً عن الفنانين الأساسيين من محركي دمى ورواة وعازفين على آلة القيثارة المصاحبة لعروض هذا المسرح. كما يتطرّق الكتاب إلى أهم مسرحيات الدمى التي تنقسم إلى قسمين.. المسرحيات التاريخيَّة والمسرحيات المحليَّة ذات الموضوعات المتعددة ومن أهمها موضوعة الصراع بين الالتزام الاجتماعي وبين الحب والتضحية.

كما يخصص الكتاب قسما لتسليط الضوء على دمية (بونراكو) وأنواعها وحجومها وأنواع رؤوس تلك الدمى وأزيائها، فضلا عن آليات تحريكها.

ويُعد مسرح الدمى مسرحاً احترافيا، ويتم تقديم عروضه بمصاحبة الغناء على وقع عزف الآلة التقليدية اليابانية ذات العلاقة الأوتار الثلاثة التي تُعرف بـ (الشاميزين) مع العرائس.

وعادة ما يقوم بالعزف ثلاثة أشخاص. وقد تسمية مسرح بونراكو بهذه التسمية على اسم مروّج يُدعى (يومور بونراكو) الذي قام بتشجيع هذا النمط من العروض في القرن التاسع عشر.

ويتميز مسرح بونراكو بطابعه الذكوري الصرف، فالمؤدون هم من الرجال فقط وقد شاع هذا المسرح في مدينة اوساكو وطوكيو، وهو يحظى بشعبيَّة كبيرة في الأوساط الشعبيَّة.

وعلى الرغم من استخدامه للدمى، لا يُعد البونراكو مسرحاً للأطفال، ولقد كُتبت العديد من مسرحياته من قِبل أعظم مسرحيي اليابان وهو شيكاماتسو مونزايمون في القرن السابع عشر.

ويمتلك محرّكو دمى هذا المسرح مهارات كبيرة تمكنهم من تقديم شخصيات المسرحيَّة وكأنَّها شخصيات حيَّة على المسرح، إذ يتم التحكم في الدمى التي يبلغ ارتفاع كلّ منها نحو مترا واحدا، من قِبَل محرك يرتدي رداءً أسود على المسرح الواسع في حين يروي الرواة القصة بطريقة معبرة للغاية بمصاحبة موسيقى آلة الشاميزين. أما قصص المسرحيات فمأخوذة من مجموعات القصص المأساوية التي تصوّر الحروب الدموية في الحقبة الاقطاعيّة في اليابان والتي تمثل الادب الدرامي الياباني على أعلى مستوى.

يبلغ حجم دمية البونراكو نحو نصف إلى ثلثي حجم الانسان، وتظهر من على منصة مرتفعة بالقرب من المسرح حيث يتموضع خلفها محرك الدمية. وفي المسرحية الواحدة يتم استخدام نحو أربعين إلى خمسين دمية، وهذه الدمى يتم الاحتفاظ بها لتكون معمرة إذ يمكن استخدام كل دمية لقرن ونصف قرن.

ويقوم حرفيون مهرة بصناعة شَعر الدمية من شَعر الانسان أو شَعر ثور التبت الضخم. ويتم حياكة خيوط فردية في قناع الدمية النحاسية، وهي عملية شاقة، إذ قد يستغرق صُنع شَعر مستعار واحد ثلاثة اسابيع، كما أن هناك 80 نوع من قصات الشعر المختلفة للدمى الذكورية و40 قصة شعر للإناث.

لكلّ دمية من دمى بونراكو إطار عام، ولكلّ أداء مسرحي وقد تم تحسين آلياتها بحيث يمكن تحريك أصابعها وأفواهها وعيونها. ويختلف حجم رأس الدمية وفقا لنوع الشخصية. فآمر الحرب القوي مثلا يمتلك رأساً أكبر من القروي المتواضع، كما تتباين بشرة الدمى أيضا حسب الشخصية من البُنّي إلى الأبيض النقي. وتمثّل بعض الرؤوس أنواع شخصيات متكررة مثل الصبية الجميلة والصبي الصغير القروي وأحد سكّان القرية.. الخ.

وتتميز عملية تحريك دمية البونراكو بصعوبتها وتعقيدها، إذ يتم تشغيل كل دمية بواسطة ثلاثة محركين، أحدهم للساقين والآخر للذراع اليسرى في ما يتولى المحرك الرئيسي تحريك الجسم والذراع اليمنى والرأس بما في ذلك التحكم في تبديل تعابير الوجه.

وتتطلب عملية التحريك الجماعيَّة هذه وفقا لذلك انسجاما تاما بين المحركين وتنسيقا دقيقا عالي المستوى، ولا يكون محرّكو العرائس الثلاثة الذين يتحكّمون بدمية واحدة مخفيين، بل يمكن رؤية محرك الدمى الذي يظهر وجهه من دون تعبير بجوار رأس الدمية واثنين آخرين من محركي الدمى يرتدون أقنعة وملابس سوداء وهما مرئيان أيضا للجمهور.

يقوم الراوي في البونراكو برواية القصة والحوار موفراً أصوات الشخصيات برفقة عازف الشاميزين الذي يُعد جزءًا لا يتجزّأ من المسرحية وليس مجرد موفر للأصوات الموافقة.

وعلى الرغم من أن الدمى المتحركة هي النقطة المحوريَّة البصريَّة في مسرح بونراكو، يركّز الكثير من المتفرّجين اهتمامهم على الراوي الذي يجلس برفقة عازف الشاميزين بالزي الرسمي الكامل على مقعد منخفض على منصة صغيرة على الجانب الأيمن من خشبة المسرح.

ويخلق التعاون الوثيق بين محركي العرائس الثلاثة انطباعا بالحياة في الدمى. فتعاون الراوي وعازف الشاميزين يرفع النص المكتوب الى مستوى الدراما التعبيريَّة. أما خشبة مسرح بونراكو فهي بناء معقد إلى حدٍّ ما، والسمة الرئيسة لها هي المساحة التي توفرها لمحركي الدمى والتي تكون أعمق بنحو متر واحد من الخشبة الفعليَّة، وهذا يمكّن محركي الدمى من تحريكها على ارتفاع مناسب للجمهور. ويتضمن هيكل المسرح العديد من الدرابزينات التي يمكن إرفاقها بخلفيات مرسومة على الجوانب. ويستخدم بونراكو عادة مشهدا ملوّناً وهو ما يعكس جماليات الزخارف المسرحية المعقدة لكابوكي. ويمكن تغيير الخلفية الملونة المنقولة والعوازل الخشبية بسرعة لتشكيل - على سبيل المثال - منزل به حديقة ودواخله مما يتيح للجمهور رؤية ما في داخل المنزل وما في خارجه. وقد تستخدم بعض الحيل الخاصة. فيمكن إنشاء بحر عاصف بواسطة موجات منقولة زرقاء ويستحضر إنطباع المشي أو السفر عن طريق وضع خلفية مع لوحة منظر طبيعي من جانب الى آخر. وكما هو الحال في مسرح النو فإنّ وتيرة الأحداث في البونراكو بطيئة ومملة الى حدٍّ ما وغالبا ما تتأصل الحبكة في الاخلاق الكونفوشيوسية وغالبا ما تتميز بشخصيات تتنازعها صراعات بين الواجب والحب. في بعض الاحيان قد يستغرق ترديد كلمة واحدة أربع دقائق، وكما يقول أحد الرواة (بمجرد أن تنسجم مع الايقاع الهادئ والبطيء سوف تستمتع بالمسرحية، وبالطبع فقد تمت إضافة بعض الأجزاء التي تبدو مملة بشكل متعمد لجعل ذروتها تبدو أكثر كثافة).

وقد تبدو الدمى وكأنّها في وضع الوقوف أو تسير على خشبة المسرح، ولكن في الواقع أنّها مرفوعة في الهواء بواسطة محركي الدمى الذين يقفون في منصّة مسرحيّة مغمورة تعرف بـ (فونازوكو) ويتم تحقيق الوهم المسرحي من خلال جدار منخفض أمام الدمى ومحركيها والذي يوهم بالإشارة الى مستويات الأرض وخداع الجميع تقريبا، كما أن منصة المسرح تدور في نهاية كل مشهد. 

ويزوّدنا كتاب مسرح الدمى الياباني الذي يُختَتم بتقديم سرد لأهم المصطلحات المستخدمة في مسرح بونراكو، يزودنا بما تحتويه أشهر مسرحيات بونراكو من قصص الحب والانتحار مع وصف دقيق لتسلسل الأحداث والمشاهد بدءًا من لحظات الافتتاح التي تبدأ بضرب قطعتين من الخشب معا لتنبيه الجمهور والممثلين بأن كل شيء جاهز لبدء

العرض.