قراءةٌ في مفهوم التعدديَّة الدينيَّة

منصة 2023/03/20
...

   حازم رعد 

التعدديَّة وهو أحد مفاهيم جاءت لتصور لنا شكلا من الكثرة الدينيَّة في

 الجغرافيا الواحدة، بما أن تلك الكثرة قائمة على الاختلاف في سياق التنظير للتعايش السلمي وفق منظورات الاعتراف بالآخر الديني المختلف لا على اساس

 التنافي والنسخ.

فهذا المفهوم يعني [ضرورة الاعتراف المعرفي - وليس فقط الاجتماعي والاخلاقي- بجميع الأديان والمذاهب وإعطاء المعذوريَّة للمؤمنين بها، ومن ثم عدّلت مفهوم النجاة الذي كان في الماضي قد حصر الخلاص في طائفة دينيَّة واحدة بحيث صار أكثر شمولا واتساعاً ليشمل اكثر ابناء الديانات والمذاهب، كما عدّلت مفهوم التعايش من مجرد كونه ضرورة مرحليَّة الى حاجة انسانيَّة ثابتة] كما يقول حيدر حب الله.  فالمفهوم يتجاوز كونه وظيفة إجرائيَّة تقوم على أساس خلق مناخ من السلم والاستقرار داخل المنظومة الاجتماعية مع مطلوبيَّة ذلك إلا أنّه ضرورة الاعتراف بالآخر الديني معرفياً بمعنى الاقرار بحقانيته وتقاسم الصدق والمطابقة للواقع معه، وهذا الفهم فيه نحو من الاشكالية من ناحية دينية وبخاصة مع تلك التي تحتكر الحقيقة وتتمترس بفكرة الفرقة الناجية. 

النظر في المفهوم من ناحية البناء المعرفي يؤكد انه صياغة حديثة نادى به بعض الاتجاهات كطريقة مثلى للعيش المشترك بلا تمايز في الحقوق والواجبات في ظل دولة محايدة تنظر الى جميع المختلفين على حد سواء، كما ان قبول المختلف الديني كفكرة ليس وليد الوضع المعاصر وانما له حيز من الوجود في التاريخ، فمثلا نجد هذه الفكرة حاضرة في أدبيات الاسلام حينما وضع مجموعة معاهدات مع اليهود والنصارى غايتها التعايش السلمي من خلال تصفير المشكلات ومحاولة تقريب وجهات النظر وتثبيت مجموعة مبادئ عامة للعيش المشترك. 

وفي هذا السبيل أشار المفكر الفرنسي روجيه غارودي إلى أنَّ نبي الاسلام محمد قد دعا الى وحدة فدراليَّة بين الديانات (إن الفكرة الاولى لعلاقات المسلمين مع بقية الطوائف الدينية في فكر ورأي النبي "ص" للطوائف الدينية كانت اقامة ما نسميه اليوم "وحدة فيدرالية" للطوائف الدينية … أعتقد أنَّ هذه المعادلة قابلة للعيش والاستمرار أي أن تصل بنا الى روابط الجماعة وروابط الارض وروابط السوق المشتركة وحتى روابط الماضي والثقافة واقامة كل شيء على اساس المستقبل، أي على الايمان المشترك بمعناه الأرحب والأوسع) وهذه الوحدة قائمة بحسب عبارة غارودي على ابتكار واستثمار روابط متعددة يمكن أن تشكل الضمانة للعيش وتجعل افق المصالح المشتركة هو السبيل لتقوية تلك الاواصر لأجل تثبيت السلم بين الفرقاء الدينيين. 

ولكن أوضح صوره جاءت مع الحضارة الحديثة، التي تجد من الضرورة بمكان أن يتعايش أهل الديانات المتعددة سلمياً كأفضل خيار ممكن بدل الدخول في صراع لا نهاية ولا فائدة ترتجى منه، ولعل الفكرة الحديثة التي يتم الترويج لها "الديانات الابراهيمية" تجيء في هذا المساق وإن كانت هي تقتصر على الديانات التوحيدية وتطرح الديانات الارضية من لائحة التعددية، ولكنها كفكرة للتعايش تنسجم مع الفكرة أعلاه.

إنَّ مفهوم التعدديّة الدينيّة واحدة من اربع نظريات تتناوب على الاجابة عن تساؤلات مطروحة تخص الاديان، فهناك النظرية الحصرية التي ترى ان الحق محصور في دين واحد، وهناك النظرية الابطالية التي ترى بطلان كل الاديان بزعم أنها موضوعات بشرية وطواطم مالها قسط من التقديس وايضاً هناك من يقول بالنظرية الشمولية اذ العناية الالهية لا تقتصر على دين من دون آخر. وتشق نظرية التعدديّة الدينيّة وهي الرابعة من بين تلك النظريات طريقها من خلال الرأي الذي تتبناه والذي تعتقد فيه بعدم رجحان دين على آخر وأن جميع الأديان متكافئة وليست هناك أفضليَّة لأحدها على الآخر، وتنسجم هذه النظرة التعددية مع العقل الحداثي الذي يقف على الحياد ازاء الاديان ولا يقترب من احدها على حساب الآخر.

وتجدر الاشارة الى كون مفهوم التعدديّة ذا بُعد عملي وهو امكانية التعايش السلمي بين الاديان المتعددة في الجغرافيا الواحدة او المتعددة "امكانية بالفعل" وذلك من خلال تأسيسها على التوافق على تثبيت السلم المجتمعي والحفاظ على الامن الذي هو فعل مشترك للجميع ويعود بالمصلحة على الجميع، أو بتعميم مقول إن يلتزم كل إنسان بدينه ويترك أسلوب الدعويَّة والتبشير انطلاقاً من حصر الحقيقة في اتجاه ديني معين. إنَّ فكرة التعدديَّة الدينيَّة "مدار البحث" لا تقتصر على الاديان السماوية وتهمل ضم الأرضية الى جنابها، بل هو مفهوم يطول جميع الاديان بلا تفاضل فعلى طول التاريخ "ما كان لإنسان ان يتحرر من تأثير هذه الاديان والنحل التحرر بأكمله"

فالمعنى في المفهوم عام وشامل لعله حتى يستوعب كل اتجاه فكري أخذ طابع الاعتقاد الديني أو وصل به الأمر وباتباعه الى التعامل مع مبادئه وأفكاره كما لو أنها حق مطلق لا يمكن نقضه بمعنى أنه إقرار بكونه طريقة خلاصيَّة تشبه الوضعيات الدينية.