كل محاولة شعريَّة تجديديَّة تجنحُ نحو المغايرة وخرق السائد؛ تكون محكومة بالارتباك ما لم تتحرك في ثنائية اللغة/ الإيقاع، رغم أنَّ هذا الثاني يعدُّ إشكاليَّة شكلانيَّة بين “إيقاع داخلي” يتحرك في جمل النص النثري، وآخر خارجي يتمثل بالوحدات الوزنية (التفعيلات) للقصائد الموزونة. ولهذه القصدية التجريبية سعى كثير من الشعراء العراقيين الذين أدركوا أنَّ خلخلة المهيمنات التي لم تعد صالحة لمتطلبات الزمن الجديد؛ هي نقطة الانطلاق نحو فضاءات المغايرة خصوصاً في نقطة بالغة الأهمية تمثلت في مزاوجة المضمون التجريبي (اللغة) بشكل تجريبي (الإيقاع).
ويعدُّ الشاعر أجود مجبل في طليعة الشعراء العراقيين المعاصرين الذين يخوضون في غواية التجريب عبر هذه الثنائية مضيفاً للخصوصية الغنائية تقنيات جديدة تنسجم ومتطلبات الزمن الجديد من دون التنازل عن الإرث الإيقاعي. على ما يبدو أن أجود مجبل أدرك أن التنازل نهائياً عن الغنائية يمثل انتحاراً شعرياً، فراح يسكب على لغته تصورات ذهنية وفلسفية متسلحاً بثقافة معرفية واضحة، وأنتج نصوصاً أقرب للفلسفة المغنّاة بعناوين ابتعدت بمسافات عن أية نزعة خطابية أو ظاهرة صوتية تاركاً للغته حرية التماهي مع إنسان قد يكون في آخر نقطة من أطلس الخرائط ، فغوايته قائمة على تذويب الـ (أنا) في الآخر.
ويمكن تقسيم غواية التجريب عند أجود مجبل إلى :
أولاً: غواية الإيقاع
في قصائد الشاعر أجود مجبل نلمسُ قصدية التجانس بين الإيقاع واللغة رغم سعيه الأكيد في تذويبه داخل جملته الشعرية فيكاد يكون مثل خيط ماء شفيف حتى مع أهمية حضوره الذي أكدت عليه الدراسات ومنها ما قاله الدكتور ثائر العذاري في كتابه (الإيقاع في الشعر العربي الحديث في العراق) من أنَّ الإيقاع “صفة مشتركة بين الفنون جميعاً تبدو واضحة في الموسيقى والنثر الفني والرقص، كما تبدو أيضاً في كل الفنون المرئية، فهو إذنْ بمثابة القاعدة التي يقوم عليها أيُّ عمل من أعمال الأدب والفن”.
ولأنَّ أجود مجبل شاعرٌ حداثيٌ بامتياز نراه يلجأ إلى خيارات إيقاعية تؤكد مغامرته كما في قصيدته (العودة إلى جورنيكا) التي اتخذت إيقاع البحر الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) بكلِّ تموجاته الساحرة التي تجعل القارئ يعتقد أنه يقرأ نصَّاً نثريَّاً؛ وذلك لسلطة الشعرية العالية داخل
الإيقاع:
(ها هنا استنجدت مُغَنِّيَةُ الحَيِّ
فَقُلنا:
لَبَّيْكِ سَيِّدةَ الليلِ
طَرِبْنا
والليلُ أنجبَ فينا وطناً
كم بكى عليهِ السُكارى/ ديوان يا أبي أَيُّها الماء ص9)
ثانياً: غواية السرد الشعري
لم يعد غريباً تداخل أجناس الكتابة الإبداعية في ما بينها، وهذا التداخل ــ ربما ــ سيكون مستقبل الكتابة الحديثة، خصوصاً بعد الاقتراب اللذيذ للسرد من الشعر وكذلك العكس.
لقد أصبح توظيف عناصر السرد داخل النص الشعري من أهم مميزات التجديد في الحركة الشعرية، وقد اشتغل على هذا التداخل شعراءٌ كثيرون بأساليب متباينة ومنهم سعدي يوسف في قصيدة (الناطور)، والجواهري في قصيدته (بائعة السمك). ومن البديهي القول إنَّ حضور السرد في النص الشعري قد يفرض ــ طبقاً للطبيعة النثرية للسرد ــ شكلاً مفتوحاً هرباً من أي “قيد” إيقاعي، أو شكلاً تفعيلياً يعتمد تعدد التفعيلات.
لكنَّ الأمرَ مختلفٌ مع أجود مجبل حينما يلعب دور الراوي الشِعري في قصيدته (حارس الطين) التي جاءت بشكلها العمودي (بحر المنسرح) فقدم لنا في جزئها الأول قصَّة شعريَّة بلغة ليس لنا إلّا التسليم بحداثتها وتجريبيتها من خلال صنع العلاقات بين الالفاظ :
(من آخرِ الحُلْمِ
جاءَ مُلْتَبِساً بِعُمقهِ والفصولُ تنجرفُ
منذ اخضراراته
يسير إلى حيث الملاذات عنه تنكشفُ
سألتُهُ واللظى يمورُ به:
متى من النار عدتَ يا خزفُ؟
وهل رأيتَ البلادَ حاسرةً
أجملُ أطفالِها هو الأسفُ؟)
الملاحظ في هذه القصيدة أنَّ الشاعر لم يخلخل البناء القصصي المتعارف عليه كما يفعل كتاب القصة اليوم، فقد امتثل للتسلسل المنطقي لكتابة القصة؛ ليس لأنه غير قادر على ذلك؛ بل لأنه انحاز لشعريته التي أراد لها أنْ تكون أميرة تختال وحدها في غواية التجريب، كما أنه أراد أنْ يكون مغامراً وسطيَّاً؛ كي لا يرهق قارئهُ بغوايتين سرديَّة
وشعريَّة.