البصرة: صفاء ذياب
تصوير: نهاد العزاوي
تتشابه طقوس رمضان في المدن العراقية إلى حدٍّ كبير، حتى مع التطوّر والتغيّر الذي طرأ على البلد، بدأت بعض الطقوس بالاختفاء، ربّما على رأسها التزاور طوال الشهر الفضيل، لا سيّما في وقت الفطور بالنسبة للأسر، وبين الأصدقاء غالباً ما يكون السحور هو وقت التزاور، فلا ينتهي اليوم إلا مع أذان الفجر الذي يعلن بداية النوم، وانطلاق يوم جديد ستتخلله فعاليّات عدّة.
من أهمها صلة الرحم والعلاقات التي تكون في أفضل حالاتها، خلال هذا الشهر وعيد الفطر المبارك، وهذا مثلما ينطبق على بغداد والمدن المجاورة، يعد ضمن طقوس شهر رمضان في مدينة البصرة أيضاً.
ومثلما عُرف المحيبس في محلات بغداد الشعبية، مثل الكاظمية والفضل وغيرهما، عُرف أيضاً في مدينة البصرة، لا سيّما في منطقة الزبير التي تنفرد بطقوسها الشعبية العديدة، ليس أولها الزيران، وليس آخرها القرقيعان.
وفضلاً عن المحيبس، تنتشر في البصرة دورات تحفيظ القرآن في أغلب مساجدها. غير أنَّ من أهم ما يميز هذه المدينة الغافية على الخليج العربي تراثها الخاص بيوم القرقيعان، الذي يصادف المنتصف من شهر رمضان.
ما القرقيعان؟
القرقيعان، مناسبة تقليدية وتراثية سنوية خاصة بالأطفال، يحتفل بها في المنتصف من شهر رمضان في منطقة الخليج العربي، وتعرف بهذا الاسم في الكويت والسعودية، لا سيّما المنطقة الشرقية، وتحديداً مدينة القطيف، وفي البصرة جنوب العراق، وفي الأحواز، وتعرف بلفظ قرقاعون في البحرين، وقرنقعوه في قطر، والقرنقشوه في عُمان، في حين تعرف في بغداد بلفظ ماجينا.
وبهذه المناسبة، يطوف الأطفال مرتدين أزياءً شعبية ويردّدون الأهازيج التي تختلف بحسب المناطق اختلافاً بسيطاً، ولكنها تبقى متشابهة في مضمونها، فتوزّع الحلوى بينهم... ويعمد الأطفال إلى لبس الملابس الشعبية، فيلبس الأولاد الدشداشة وسترة بالإضافة إلى النعل الشعبية، أمَّا البنات فيلبسن الدراعات والبخنق وهي قماش بألوان مختلفة مطرزة، مع الترتر الذي يُوضع على الرأس، ويحمل كلٌّ منهم كيساً لجمع المكسّرات والحلوى، وعادةً ما تبدأ هذه الفعالية بعد صلاة المغرب مصحوبة بالأغاني الشعبية.
أما في البلدان العربية الأخرى، فتُعرف هذه الليلة بأسماء مختلفة، مثلاً تعرف في السودان بمفهوم مشابه وتُسمى بيوم الحارة أو الرحمتات، وهي صدقة يقدّمها أهل المتوفّى للأطفال الذين يجوبون الأحياء الشعبية وهم يرددون الأهازيج، مستخدمين الدفوف والطبول وليس لهم لباس مميّز ويكون هذا اليوم هو آخر خميس من شهر رمضان.
وتشير الباحثة أمجاد الهجولإلى إلى أن هذه التقاليد تمتد جذورها إلى زمن ولادة سبط الرسول الأعظم الإمام الحسن عليه السلام وحتَّى يومنا هذا، منشدين "كركيعان تنطونه لونطيكم ربي العالي يخليكم"، وبهذه الترنيمة يحيي أطفال البصرة يومهم يوم القرقيعان (الكركيعان)، الذي يصادف يومي الرابع عشر على الخامس عشر من رمضان، فبعد انتهاء العشر الأوائل من الشهر الفضيل تستعد الأسر العراقية في السابق، لا سيّما الأطفال منهم ليوم الماجينة في بغداد، والقرقيعان في البصرة الذي يصادف منتصف رمضان، وتجري العادة بالاستعداد له مثل شهر رمضان والعيد، إذ يعد هذا اليوم بمثابة يوم العيد الأول للأطفال قبل حلول عيد الفطر.
أصل تسمية القرقيعان
وترى الهجول أنَّ القرقيعان مشتق من كلمة- قرع قرقعة- وهو الصوت الناتج من تصادم الأشياء بعضها بالبعض الآخر هناك أيضاً من يقول (قرة العين)، وهو ما فيه سرور الإنسان وفرحه ومنه قوله تعالى (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرّيتنا قرة
أعين).
أما الباحث عبد الصمد شاهين، فيرى أن البعض يعيده إلى ما قبل ظهور الإسلام، ومنهم من يؤرّخ بدايته في السنة الثالثة للهجرة، وذلك بولادة الإمام الحسن سبط النبي محمد (ص).
لكنه يستدرك بقوله: الاحتمال الآخر لتأريخ (القرقيعان) أنّه في زمن الدولة العثمانية التي ظهر بها.
وتضيف الهجول أنَّه وفي هذه المناسبة تبدأ الأسر العراقية قبل هذا اليوم بيومين في الأقل بشراء (المسواك) الخاص له وهو عبارة عن (الحامض حلو، الجكليت، الزبيب، الشامية، المسقول، الحلقوم)، فضلاً عن الجوز واللوز والفستق بالنسبة للأسر الميسورة (الزناكين)، وتقوم ربّة البيت أو المرأة المسنّة فيه بخلط جميع المواد في إناء معدني كبير (صينية) أو (الطبق) وهو يشبه الصينية مصنوع من (الخوص)، وتقوم بتحضيره حتى مجيء يوم القرقيعان، كما يتمُّ شراء القماش وخياطته لعمل الأكياس المخصّصة له التي يلبسها الأطفال لوضع الحلوى فيها، كما هناك أكياس خاصة لأبناء الأغنياء المصنوعة من أجود أنواع القماش ومطرزة بشكل راقٍ وجميل، ويبدأ القرقيعان بعد الفطور مباشرة ويخرج الأطفال على شكل مجموعات تلبس الأكياس وينادون بأعلى أصواتهم مع التصفيق: "كركيعان وكركيعان كل سنة وكل عام، تنطونه وننطيكم وربي العالي يخليكم، بيت مكة يودّيكم، هاي مكة المعمورة أم الذهب والنورة، كركيعان وكركيعان الله يخلي راعي البيت- آمين- الله يخلي الزغيرون"، وهو أصغر طفل في البيت، فإذا كان اسمه أحمد يقولون "الله يخلي الزغيرون- آمين- بجاه الله وإسماعيل- آمين- الله يخلّي حمودي- آمين- بجاه الله وإسماعيل- آمين".
وعلى هذه الأصوات تقوم ربّة البيت بتوزيع القرقيعان بينهم، ويستمر الأطفال بإكمال يومهم من بيت لآخر وإذا التقت مجموعة بمجموعة أخرى تبادلوا الأسئلة عن أفضل البيوت، التي توزّع الأفضل والأجود حتّى يذهبوا إليها ومنهم من يذهب إلى نفس البيت مرتين، وبعد انتهاء الأطفال من القرقيعان يبدأ قرقيعان النساء وهو عبارة عن تبادل الزيارات بين الجيران وتسمّى بـ(التسيورة) ويقدّم القرقيعان لهم للضيافة، فضلاً عن تناول الشاي والدارسين والنومي بصرة والحلويات.
والواضح أن طقوس القرقيعان تتشابه بين البصرة ودول الخليج القريبة، كالكويت والسعودية والبحرين، ومن الواضح أن هذه المنطقة تمارس الطقوس الرمضانية بشكل متقارب إلى حدٍّ كبير، وربّما هذا راجع للانتقالات الكبيرة بين سكّان هذه المناطق، لا سيّما بين الزبيريين والدول المجاورة، فبمجرّد أن تزور السعودية مثلاً، ستجد الكثير من السعوديين يقولون لك إن أصلهم من الزبير، وكذلك الكثير من سكّان الكويت.
الأمر نفسه، إذ يؤكّد هؤلاء السكان أن الكثير من أقاربهم هاجروا إلى البصرة وسكنوا في منطقة الزبير بعد القحط الذي عاشوه تحديداً خلال القرن التاسع عشر.
ومثلما يحيي السعوديون، لا سيّما سكّان المناطق الشرقية، القرقيعان في المتصف من رمضان، فإنهم يحيون هذه الاحتفالية في المنتصف من شعبان، في طقوس تتشابه إلى حدٍّ كبير مع طقوس
رمضان.