الفلسفة في الفضاء العام

آراء 2023/03/30
...

 علي المرهج


قد تكون الحرية من مستلزمات نشوء التفكير الفلسفي، ولكنها ليست من قبيل علاقة العلة بالمعلول والسبب بالمسبب، فكم من فلسفة نشأت في أوساط خالية من الحرية؟، بل وكم من فلسفة كان لها تأثيرها الكبير نشأت في أوساط لا حرية فيها للفيلسوف، ولا يوجد فضاء عام له للتعبير عن أفكاره، ولكنه قدم لنا الكثير ولنا في الفلسفة الإسلامية مثال يحتذى، فهي نشأت بحلم المأمون بأرسطو فأسس بيت الحكمة، ولأن المأمون كان يميل للعلوم العقلية، فكان حلمه بأرسطو مصداقا على نزعته العقلية

 

الأمر الذي ساعد على نشوء ما سُمي بـ «مدرسة بغداد الفلسفية» أو «مدرسة بغداد المنطقية».

لم يكن فلاسفتنا عندهم مدارس للفلسفة في الفضاء العام كما هو حال أرسطو وتلامذته، الذين أسسوا مدرسة فلسفية سُميت بـ «المشائية»، وكذا الحال مع الرواقية اليونانية الذين سُميوا بهذا الاسم، لأنهم كانوا يتحدثون في الفلسفة وهم يجولون في أروقة أثينا.

أستطيع القول إن الفلسفة الإسلامية نشأت نشأة رسمية إرتبطت بدواوين وإيوانات السلطة، ولم يكن حال كل فلاسفتنا المسلمين كحال سقراط يجوب الشوارع ويحدثهم عن العلم والفضيلة.

لا أظن أن هناك فيلسوفًا إسلاميًا حمل مصباحًا مثل (ديوجين)، وعاش عيشة تخلى فيها عن كل شيء، ولا أعتقد أن باستطاعة فيلسوف مثل: الفارابي أو ابن سينا أو الغزالي أو ابن طفيل أو ابن باجة أو ابن رشد أو ابن خلدون، وعدد ما شئت من الفلاسفة بعد ابن خلدون والمفكرين المحدثين والمعاصرين العرب عاش حياته في برميل أو يقبل أن يعيش هذه العيشة، ويجوب شوارع مدينته حاملًا مصباحه ويصيح أنه «يبحث عن الإنسان الفاضل الحكيم»، الذي حدثنا عه سقراط في فلسفته وتحمل جرع كأس السم، من أجل أن يُثبت للعالم أنه وفي مع فكره ومبادئه، ولن يتخلى عن تبنيه لمفهوم العدالة، وسيستجيب لجرع كأس السم حتى لا يقال عنه إنه رفض الانصياع للقوانين التي حكمت عليه بالإعدام، وإن يكن رافضًا لها.

ما يُميز الفلسفة الإسلامية عن الفلسفة اليونانية، أن الفلسفة الإسلامية على الرغم مما قدمته لنا من وعي بحضارة وعلم الشعوب السابقة لنا في التقدم، وأنهم طبقوا مقولة «أطلب العلم ولو كان في الصين»، لكن التأسيس لهذه الفلسفة بقيَّ نخبويًا ورسميًا، بينما في الفلسفة اليونانية نجد التأسيس للفلسفة منذ طاليس الذي قال بأن «الماء أصل الوجود» ومن ثم في الفلسفة الطبيعية لم يكن رسميًا، بل كان إلى حد كبير مناهضًا للسلطة، ولم يجتمع فكر فيلسوف حتى أفلاطون الناقد للديموقراطية مع السلطة التي كان يهيمن عليها السفسطائيون، وإن كنت من الذين يميلون لفكر السفسطائيين في نقدهم للقول بوجود مثال أو يقين مطلق كما يذهب لذلك سقراط وأستاذه افلاطون.

لم أجد فيلسوفًا إسلاميًا يقول مثل ما قال (ديوجين) للإسكندر، حينما أعجب الأخير بفلسفته، فطلب منه أن يطلب ما يشاء، فطلب منه (ديوجين):»إنك الآن تقف أمامي وتحجب عني أشعة الشمس، لذا لا تحرمني من الشيء الوحيد الذي لا تستطيع منحي إياه، لا تحجب شمسي بظلك»!.

قد يكون سقراط سابقًا له حينما أراد تلامذته مساعدته في الفرار من حكم الإعدام، فرفض هذا العرض، لأنه وجد فيه ما يمكن أ يُقال عنه أنه تخلى عن شجاعته، فخطاب القضاة بالقول:»فإعلموا أيها القضاة أنكم إن أخليتم سبيلي في هذه الساعة، فإني عائد من فوري إلى ما كنت عليه من تعليم الحكمة»، ليُخاطب تلميذه (كريتون) الذي هيأ له سب الفرار حينما قال له «هيا بنا يا أستاذي إلى الحرية، فأجابه سقراط» كلا يا كريتون لن أهرب من الموت. إني لا أستطيع أن أتخلى عن المبادئ التي ناديت بها عمري كله. بل إني يا كريتون أرى أن هذه المبادئ الغالية التي ناديت بها حتى اليوم جديرة بذلك الثمن. أجل يا كريتون ليست الحياة نفسها شيئًا، ولكن الحياة أن تحيا الخير والحق والعدل فذلك هو كل 

شيء».