من الموروث السلطاني إلى الدولة المقاصدية العصرية
جواد علي كسار
في مقال الأسبوع الماضي عن الذكرى الـ(43) للسيد محمد باقر الصدر، نوّهتُ بأهمية المقارنة بين أطروحة الفقيه الصدر عن الحكم والنظام السياسي، وأطروحة المجتهد المجدّد محمد جواد مغنية، وقد جاءت بعض ردود الفعل لتزيد قناعتي بأهمية هذه المقارنة، بما كشفت عنه من عدم معرفة بأفكار مغنية، وجهل كبير بمتبنياته عن الحكم وتكييفاته الفقهية عن الدولة المقاصدية العصرية، بل هناك من لم يكتفِ بهذا الطعن فأنكر حتى وجود مدوّنة لمغنية بهذا الاتجاه، قياساً على جهله وفقط لأنه لم يرَ هذه المدوّنة ولم يسمع عنها.
مدوّنة مغنية
عند وفاته عام 1979م ترك مغنية نحو (60) مؤلفاً بمختلف ضروب المعرفة الإسلامية والإنسانية والمقارنة، متنقلاً من التفسير إلى شروح «نهج البلاغة» و»الصحيفة السجادية»، وما كتبه في الفقه والأصول، والسيرة والتأريخ والتراجم، وفي المفاهيم والإنسان والأخلاق، مضافاً إلى الفلسفة وعلم الكلام.
لقد ركّز في هذا التراث الممتدّ؛ على سؤال النهضة وقضايا التخلف والاستعمار والغرب، وما يدخل في حيّز التنوير والعقلانية والفكر الاجتماعي، وقد أشبع في هذه المسيرة المعرفية الفكر السياسي بحثاً، وما يلحق به من تصوّرات عن الدولة والنظام، والشريعة ومقاصدها، والإنسان والمجتمع والحريات تستحقّ وحدها كتاباً مستقلاً قائماً بنفسه.
بيدَ أني سأكتفي من بين ذلك كله، بآخر ما صدر له، وهو كتابه: «الخميني والدولة الإسلامية» (دار العلم للملايين، بيروت، 1979م، 184 صفحة من الحجم الوسط).
فقد انتصرت الثورة الإسلامية في 11 شباط 1979م، ووقّع مغنية مقدّمة كتابه الاحتفائي - النقدي بتأريخ 6 نيسان 1979م، ليصدر فعلاً في أيار 1979م، وتكون وفاته (رحمه الله) يوم 8 كانون الأول 1979م.
اعترف بأن عدم معرفة هذه المدوّنة الفكرية - الفقهية المهمّة، وانحسارها وعدم شهرتها، يعود في بعض أسبابه إلى نشوة الانتصار الثوري في إيران، وأن أحداً لم يكن على استعداد نفسياً، ليسمع أي صوت آخر، فضلاً عن أن يجرؤ على النقد. كما هناك ما حظيت به «ولاية الفقيه» من شوكة شأنية ومعنوية ومادّية بقوّة السلطة والسلطان، بعد أن تحوّلت من مجرّد نظرية فقهية، إلى مرجعية فكرية ودستورية وقانونية وفعلية، لنظام الجمهورية الإسلامية، ما يعني أن أي موقف نقدي منها، لم يعد يُقرأ فعلاً معرفياً وعلمياً محضاً، بل غالباً ما راح يؤوّل في ظلّ عنفوان لحظة الانتصار وحماسها، بصفته موقفاً مناهضاً للنظام السياسي
في دولة الفقيه.
إسلامية الدولة
بأيّ معنى ومُحدّد تكون الدولة إسلامية عند مغنية؟ بمناقشته لمساحة «ولاية الفقيه» وإرجاعها إلى وضعها المألوف نصاً وإجماعاً وواقعاً تأريخياً، من أنها: «ولاية الفتوى والقضاء» وحسب، بالإضافة إلى بعض الموارد المنصوصة، دون الولاية السياسية؛ من خلال ذلك كله استطاع مغنية أن يتخطى إلى حدّ كبير تعقيدات نقاش الشرعية، وهو يصرف حقّ الحكم وممارسته إلى المسلمين عامة، إذ يسأل نصاً: «هل أن سيادة الدولة هي للفقهاء المجتهدين بالخصوص، ولا يسوِّغ لغيرهم القيام بشؤونها، أو يسوِّغ ذلك لغير المجتهدين؟»، ليجيب بما يلي: «إن اختيار رجال الدولة في العصر الراهن بيد المسلمين المحكومين لا بيد الفقهاء خاصة، لأن (ولاية الفقيه) أضعف وأضيق من (ولاية المعصوم)كما أشرنا، وعليه يسوِّغ أن يتولى أمر الدولة غير المجتهدين»، (المصدر، طبعة دار الكتاب، ص 819).
يميّز مغنية بين موقعين ومؤهلاتهما؛ بين «القضاء والإفتاء»، و»رئاسة الدولة وإدارتها»، فالوظيفة الأولى للفقهاء دون نقاش، والثانية للأكفاء من المسلمين عامة. يقول: «كلّ الفقهاء يحصرون القضاء والإفتاء بيد المجتهد العادل؛ وهذا شيء والدولة ورئاستها شيء آخر»، (المصدر: ص 85، 53).
بين الجذور والقشور
ربما بدا هذا الرأي صادماً بعض الشيء في ذلك الوقت، خاصة مع الصوت الرفيع الذي علا المشهد بفعل انتصار ثورة الفقيه وقيام دولته. لذلك ترى شيخنا (مغنية) يطيل المكوث عند هذه النقطة، ويكرّر السؤال التالي: «وتسأل: إن موضوع الحديث والكلام هو الدولة الإسلامية، فكيف تكون كذلك إذا تولى أمرها غير الفقهاء وعلماء الدين؟»، كما أيضاً: «أنت لا تحصر الحكم والسلطان بالهيئات الدينية الفقهية، وتتجاوزها إلى كلّ الفئات!»، (المصدر: ص 85، 83). تقودنا هذه المسألة وتكرار السؤال فيها، إلى مقوّم إسلامية الدولة عند مغنية، حين رفض أن يكون الفقيه هو ذلك المقوّم.
هذه الإسلامية التي تكشف عن نفسها بالعمل والسلوك والمواقف الفعلية، وليس بالرجال والنظريات والمدعيات، ومن ثمّ فإنَّ: «أية دولة أحسنت العمل فهي مسلمة، حتى ولو كان رجالها من غير الفقهاء، وإنْ أساءت فما هي من الإسلام في شيء حتى ولو تخرّج أعضاؤها من النجف أو الأزهر. ومعنى هذا أن العبرة بالفعل لا بالفاعل، وبالجذور لا بالقشور»، (المصدر: ص 82).
الشريعة والمقاصدية
إلى جوار ما تؤدّيه الشريعة من دور كمصدر، فإن لها مهمّة خطيرة تنهض بها، عندما تتحوّل في أطروحة مغنية إلى إطار مرجعي لقوانين الدولة ومواقفها. فيد الدولة وأجهزتها مفتوحة في سنّ القوانين وإصدار الأوامر والضوابط وفق المصالح التي تقدرها، لكن بشرط أنْ تتوافق هذه القوانين والمواقف في السياستين الداخلية والخارجية مع الشريعة، ولا تتعارض معها: «إن الشريعة الإسلامية هي الإطار والمعيار لقوانين الدولة وتصرفاتها، فكلّ ما يتفق مع الشريعة يجب تنفيذه، ولا يسوِّغ الطعن فيه، وما ثبت تعارضه معها، يحكم ببطلانه وإلغاء آثاره»،
(المصدر: ص 23).
تأسيساً على هذه القناعة وانطلاقاً منها ستتسع القاعدة الإنسانية المرنة لهذه الدولة ويخفّ الانطباع الراسخ في العقول والنفوس، عن جمودها وتيبّسها بإقحام الفقه في كلّ شيء، وذلك انطلاقاً من أصل آخر مضاف إلى هذه القاعدة أو الأصل. فالشيخ مغنية يؤمن بـ»المنحى المقاصدي» أشدّ الإيمان، ويعبّر عنه بأوضح النصوص، حين يضيف بأن الشريعة ليست هي وحدها التي تُنفّذ، بل يأخذ سبيله إلى التنفيذ كلّ صالحٍ نافع في التجربة الإنسانية وكلّ جديدٍ فيها، لأن الشريعة الإسلامية: «تبارك كلَّ عمل صالح، وكلّ فكرة نافعة بغض النظر عن صاحبها وقائلها»، (المصدر: ص 19).
تبلغ الدعوة إلى انفتاح الدولة على كلّ جديد تفرزه الحياة وسيرة العقلاء فيها، واحدة من مدياتها المدهشة بأخذِ آخر تطوّرات الحداثة الإنسانية وما تفرزه من نافعٍ مفيد ذي جدوى لبناء الحياة على أساس العدل والقوة والرفاهية، من «المنحى المقاصدي» نفسه، وغايته التي يجسّدها النص الشرعي التالي الذي يستدلّ به مغنية: «كلّ شيء يكون فيه صلاح الناس بجهةٍ من الجهات، فهذا كلـّه حلال، وكلّ أمر فيه وجه من الفساد، فهذا كلـّه حرام»، (المصدر: ص 20).
التجربة الإنسانية والعصرية
إذ نعرف أن الدولة الناجحة اليوم هي تجربة أوروبية حديثة بالأساس، تعضدها تجارب أخرى كالتجربة اليابانية استقت أصول بنيتها في النجاح من التجربة الأوروبية ذاتها، فإنّ هذه الحقيقة تضعنا أمام موقف صعب، كما تضع تصوّرات مغنية عن الدولة أمام اختبار حقيقي.
الحقيقة، يُدهشك مغنية بانفتاحه وجرأته، وهو يدعو إلى الأخذ من هذه التجربة والاقتباس منها صراحة، لكن في حدود ثلاثة، هي المصلحة والجدوى وعدم التعارض مع الشريعة. يكتب بدءاً في تقرير أصل أو ركن أو مبدأ سيرة العقلاء في الدولة، والأخذ برأي أهل الخبرة والاختصاص، ثمّ ينعطف للدعوة إلى بناء الدولة الناجحة ولو تقليداً للغرب، فيقول: «إن أعمال الدولة ليست كلها دينية ومسجدية، فمنها إدارية، ومنها اجتماعية لم يرد فيها نصٌّ، فتُترك للعقلاء، يقومون بها في حدود المصلحة، حتى ولو كانت تقليداً للغرب، ما دامت لا تحلل حراماً ولا تحرّم حلالاً»، (المصدر: ص 82).
هناك مسافة نُدركها بوضوح بين الرؤية الحركية التي تريد لكلّ شيء وخاصة النّظم، أن تكون مستقاة من الشريعة مستنبطة من أحشائها، بدءاً من «الاقتصاد الإسلامي» وانتهاءً بـ»الفن الإسلامي»، مروراً بالعلوم الإنسانية كافة، بل وبالعلوم الطبيعية عند البعض؛ وبين هذه الرؤية الطلِقة المنفتحة على سيرة العقلاء، وآخر ما تفرزه التجربة الإنسانية من معطيات عصرية في بناء الدول وإدارة الحياة، في الغرب واليابان وفي كلّ مكان، شرط أن لا تتعارض مع الشريعة، و: «لا تتناقض مع أيّ نص من نصوص الإسلام ومبادئه»، (المصدر: ص 82).
ما أقصده هو المسافة بين أن يؤخذ هذا الشأن من الشريعة، وبين أنْ يكون مصدره العُرف الإنساني وسيرة عقلاء العالم، لكن بمحدّدات الشريعة، وضابطة عدم التناقض مع المبادئ العامة للإسلام، حيث تسمح هذه المساحة باستيعاب آخر معطيات التحديث وسياقات الحداثة، فتكون الدولة بهذا اللحاظ عصرية على الدوام.
مبدأ الانتخابات
بعد أن صرف حقّ الحكم في الدولة للمسلمين أنفسهم، دون ولاية عليهم من فقيه أو غيره، بات الطريق مفتوحاً أمامه لصوغ أحد أهم أركان الدولة استنادا إلى ذلك الحقّ العام. وهذا ما فعله تماماً في أصل أو ركن رئيس الدولة.
يتحدّث مغنية بوضوح كامل عن مبدأ الانتخابات كوسيلة لا مفرّ عنها لاختيار الرئيس، إذ لا مجال للتعيين أو الفرض. وهذا مبدأ يدخل في التدبير العقلاني وما بلغه العقلاء في سيرتهم من تطوّر في بناء الدولة وإدارتها، وهو يشبه العودة إلى المختص في البناء أو الصناعة أو الزراعة وما إلى ذلك، فضلاً عمّا يحققه مبدأ الانتخاب الشعبي المباشر من تلاحم بين المجتمع والدولة، وبين الشعب ورئيسه.
بيدَ أن الشكل الرئاسي للدولة وتجمّع الصلاحيات الأساسية بيد الرئيس، لا يعني إغفال دور المجلس النيابي، فالشعب يمارس مهمّة مزدوجة في انتخاب الرئيس من جهة والمجلس النيابي من جهة أخرى، لكي يجسّد حقه بالحكم في السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً، وحكومة الرئيس لابدّ أنْ تحظى بثقة المجلس النيابي، الذي ينبغي أنْ ينهض أيضاً بوظيفة سنّ القوانين التي تحتاج إليها الدولة بالأكثرية، شرط أنْ لا تخالف هذه القوانين الإسلام، لأن الأكثرية الساحقة من أهل البلاد من المسلمين.
حاكمية الشعب
الحقّ، أن مبدأ الانتخاب عند مغنية له قيمة أرفع من أن يبقى في حدود كونه آلية لاختيار رئيس من بين عدد من المؤهلين، كما يتخطّى دوره كوسيلة من الوسائل التي استقرت عليها سيرة العقلاء والتجربة الإنسانية في بناء الدولة الناجحة، وذلك حين يتحدّث بصراحة ووضوح على أن شرعية الحكم والهيأة الحاكمة يتوقفان على الانتخاب الأكثري، بعد أنْ أسقط من الاعتبار «ولاية الفقيه» كمصدر لهذه الشرعية، ومع تعذر الإجماع على شخص بعينه كرئيس. يكتب في مواصفات الدولة العصرية، ومن بين شروطها: «أنْ تكون الدولة لكلّ الشعب، ولن تكون كذلك إلا إذا اختارها وانتخبها الجميع بنفس راضية تمام الرضا، وإنْ تعذّر الإجماع، وتولـّت الحكم بالأكثرية وضعت الكلّ على مستوى واحد في الحقوق والواجبات بلا تحيـّز ومحاباة، وبهذا وحده تكون الهيأة الحاكمة شرعية»، (المصدر: ص 99ـ 100).
واحدة من أهم النتائج المترتبة على هذا الأصل المتمثّل بصرف حق الحكم إلى المسلمين وولايتهم على أنفسهم، وممارسة هذا الحقّ على أساس الانتخاب، وتحوّل الانتخاب بوصفه تعبيراً عن رأي القاعدة الأكثرية العريضة، إلى أساس لشرعية الحكم؛ هو أن الدولة الإسلامية لن تكون دولة الشيوخ ولا حتى الفقهاء، كما لا تعني أيضاً «حكم الشيوخ والفقهاء» فضلاً عن أنْ تعكس «سيطرة الشيوخ على الحكم واحتكارهم لسلطان السياسة» كما يقول نصاً (المصدر: ص 22، 23).
الحداثة الدائمة
بذل مغنية في الأركان والأصول التي وضعها لتصميم الدولة، جهداً متميزاً لتكون هذه الدولة عصرية في جميع مرافقها. لذلك لم يألُ جهداً في أنْ يخصّص في كتابه فصلاً قائماً بنفسه، بعنوان: «الإسلام والدولة العصرية»، فضلاً عن حرصه الأكيد على استحضار العصرية ودرج مقوماتها في فصول الكتاب كافة التي تحدّث بها عن الدولة.
في الأنموذج التنظيري الذي انطلق منه في الدولة العصرية، لا يتخفّى مغنية في الإعلان على أن مصدر هذا الأنموذج، هو عدد من مجلة «الفكر المعاصر» المصرية، وقد: «تحدّثت صفحاتها بالكامل عن معنى الدولة العصرية وأبعادها، وكلّ ما يتصل بها من قريب أو بعيد». أكثر من ذلك، لا يبالي الشيخ مغنية وهو يساوي بين الدولة العصرية هذه التي وضع تصاميمها الرئيسة وتحدّث عن تفاصيلها (25) كاتباً من ذوي الرأي والخبرة وحملة الشهادات العالية، والدولة التي يريدها الإسلام ويسعى المسلمون إلى تحقيقها، فهي: «دولته ودعوته بالذات، ولا فرق إلا في التسمية».
وهذا الالتقاء بين الدولة الإنسانية العصرية وبين الدولة الإسلامية التي يتحدّث عنها مغنية، ويطلق هذا الكتاب دعوةً للتبشير بها، لم يأتِ جزافاً أو من خلال الاعتباط، بل جاء بالأساس متجاوباً مع تصميم هذه الدولة عند مغنية. فهي وإنْ كانت دولة شريعة، لكنها ليست دولة فقه وحده، ولا يتضخم فيها الفقه، أكثر من مجاله الطبيعي، لتكون دولة تعزيرات وحدود، بدلاً من أنْ ينفتح المجال للإنسان وللعقل والعرف والتجربة والاختصاص وكلّ ما يتصل بسيرة العقلاء، وما تفرزه هذه السيرة من معطيات متجدّدة في العصر والزمان، كي تأخذ طريقها في بناء هذه الدولة وتأسيس نظمها وإدارتها.
فإذن الركن الأساس لعصرية الدولة، هو الانطلاق من حجية العرف وبناء العقلاء، إلا إذا خالف ذلك «آية محكمة أو رواية قائمة»، وما دامت «الآيات والروايات تأمر الناس أنْ يأخذوا من كلّ شيء أحسنه»، وتحثّ على «بناء الحياة على أساس العدل، والقوة والرفاهية»، فهي بهذا الملاك تجسّد الدولة العصرية وتحققها في كلّ وقت.