تَبِعات {بريكست} على الاقتصاد الألماني والأوروبي
اقتصادية
2019/04/19
+A
-A
برلين/ محمد محبوب
يشعرُ رجالُ الأعمال الألمان والأوروبيون، اليوم، بالقلق على مستقبل أعمالهم ومشاريعهم في بريطانيا، وتعتزمُ الشركات الألمانيَّة خفض الاستثمارات والوظائف في بريطانيا مع استمرار الأخيرة في خططها للطلاق من الاتحاد الأوروبي.
وقال اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانيَّة إنَّ كثيراً من الشركات الألمانيَّة بدأت في نقل استثماراتها من بريطانيا خوفاً من زيادة العراقيل التجاريَّة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تخفيض الاستثمارات
وحسب الدراسة التي أجراها اتحاد الغرف الألمانيَّة للتجارة والصناعة، فإنَّ أكثر من ثلث الشركات الألمانيَّة التي لديها استثمارات في بريطانيا ستخفض استثماراتها في بريطانيا، بينما ستقوم 26 بالمئة من الشركات بخفض الوظائف والقوة العاملة البريطانية في حال أتمَّت بريطانيا انسحابها من الاتحاد الأوروبي.
واعتمدت الدراسة على ردود أفعال نحو 5600 من أعضاء اتحاد الغرف الألمانية للتجارة والصناعة، وأكد الاتحاد، أنَّ انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي سيلقي بتأثيراته السلبية على جميع قطاعات الاقتصاد الألماني من دون استثناء، مشيرأً إلى أنَّ قطاعات الاقتصاد الألماني المختلفة صدرت في العام الماضي بضائع بنحو 90 مليار يورو إلى الأسواق البريطانية، الأمر الذي يجعل بريطانيا تحتل المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وفرنسا على صعيد الدول المستقبلة للبضائع الألمانيَّة.
فرص العمل
كما أوضحت أنَّ 750 ألف فرصة عمل ستكون مهددة في حال الانفصال البريطاني، وقال متحدث باسم الاتحاد: “إنَّ عقبات كثيرة تنتظر الشركات الألمانية الناشطة في بريطانيا، وإن مستقبل بريطانيا مهمٌ جداً بالنسبة لنا، ففي بريطانيا تنشط 2500 شركة ألمانية، وهذه الشركات تشغل 400 ألف موظف”.
وأوضح “أن بريطانيا تحتل المرتبة الأولى في العالم على صعيد الاستثمارات المباشرة في ألمانيا، وهناك 200 ألف موظف ألماني يعملون في شركات بريطانية ناشطة في ألمانيا، وخروج بريطانيا يعني تبعات خطيرة على قطاع الاستثمارات الألمانية” وأضاف “لا نعرف إذا ما كان خروج بريطانيا من الاتحاد سيؤدي إلى العودة إلى فرض الجمارك على البضائع، ولكن حتى لو بقيت هذه البضائع معفاة من الضرائب ستكون الشركات الألمانية على موعد مع إجراءات بيروقراطية ستشكل عقبة أمام أعمالها”.
أثقال اقتصاديَّة
وتحاول المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل طمأنة مواطنيها ودول العالم من أجل امتصاص صدمة انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وذلك وسط مخاوف متنامية من آثار كبرى في الاقتصاد الألماني، سواء على المستوى الداخلي، أو على مستوى الأثقال الاقتصاديَّة التي ستلقى على كاهله عقب مغادرة بريطانيا لدورها الاقتصادي والمعنوي في الاتحاد، ورغم المخاوف التي تتزايد يوماً بعد يوم من آثار الانفصال البريطاني على ألمانيا، تقول المستشارة ميركل، إنَّ تلك الخطوة سوف تؤدي للوهلة الأولى إلى غموض اقتصادي محدود في ألمانيا، وأضافت، أنه ينبغي لدول الاتحاد الأوروبي وعددها 27، العمل على ضمان استمرار التكتل الاقتصادي بقدرته على المنافسة وخلق الوظائف ودعم النمو، وفي محاولة لتخفيف صدمة الطلاق البريطاني.
إتمام السوق
من جانبه يحاول وزير المالية الألماني أولاف شولتس، تعزيز التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي، وذلك عبر سعيه إلى إتمام السوق المشتركة، وانتقال رؤوس الأموال عبر دول الاتحاد دون قيود، ويرى شولتس، أنه من الضروري إصدار قانون الإفلاس الموحد للشركات ضمن الاتحاد الأوروبي.
ورغم أنَّ فكرة الاتحاد الأوروبي نشأت في الأساس لتشكيل أوروبا موحدة قويَّة سياسياً واقتصادياً، وتقليص احتمالات نشوب صراعات داخلية جديدة عقب الحرب العالمية الثانية، إلا أنَّ العقد الأخير شهد تفوقاً متنامياً للاقتصاد الألماني الذي يحتل اليوم المرتبة الرابعة عالمياً من حيث الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لصندوق النقد والبنك الدوليين، ويرى المحللون السياسيون والاقتصاديون، أنَّ ألمانيا لا تريد أنْ تحمل الشعلة الأوروبية بصورة منفردة، لأنها تبدو مثل (حامل كرة النار)، ولذلك تبعات ثقيلة على أوضاعها الداخلية، لكنَّ برلين لا تمانع أنْ تلعب دور “الزعيم” في وسط مجموعة من الكبار، الذين يمكنهم القيام بأدوار كبرى.
خطة الإصلاح
قالت صحيفة “هاندلسبلات” اليومية: “إنَّ تشديد قواعد الميزانية لدول الاتحاد الأوروبي وتقليص حجم المفوضية الأوروبية هما جزء من خطة إصلاح الاتحاد بعد خروج بريطانيا”، لكنَّ الحكومة الألمانية، ترى أنَّ انسحاب بريطانيا يجعلها تفقد شريكاً قوياً مؤيداً للسوق الأوروبيَّة المشتركة بين الدول التي تملك أكبر اقتصاديات في الاتحاد الأوروبي، وأنَّ المشكلات الاقتصادية الرئيسة في أوروبا ومنطقة اليورو ستبقى من دون معالجة، ومع اليونان والبرتغال اللتين تواجهان شبح الإفلاس، ومع اضطراب اقتصادي في إسبانيا، وأزمة مصرفيَّة في إيطاليا، فإنَّ الوضع الأوروبي الاقتصادي لا يحتمل انفصال إحدى القوى الكبرى عنه في هذه المرحلة، رغم أنَّ ألمانيا كانت وما زالت تتحمل الأعباء المالية الأكبر في الأتحاد الأوروبي، إلا أنَّ وجود ثقل متمثل في بريطانيا كان ركيزة أساسيَّة لمحاولة السعي لحلحلة الأزمات الأوروبيَّة.
وكان معهد “إنفراتيست ديماب” الألماني قد أجرى استطلاعاً للرأي أظهر أنَّ الشعب الألماني هو الأكثر اعتراضاً على مسألة الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي، بنسبة 78 بالمئة ممن الذين شملهم الاستطلاع، وبحسب ميشيل كونيرت، المتحدث باسم المعهد، فإنَّ الغالبية العظمى من الألمان يشعرون بأنَّ الانفصال يعدُّ مؤشراً سيؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي برمته. وقال كبير الخبراء الاقتصاديين في مؤسسة “ديكابنك” الألمانية أولريش كاتير: “إنَّ انسحاب بريطانيا من عضوية الأوروبي، سيخلف آثاراً سلبية على اقتصاد ألمانيا وبريطانيا معاً”، وأشار كاتير إلى أنَّ “خيار الانسحاب البريطاني من الاتحاد من الممكن أنْ يؤدي إلى ركود الاقتصاد البريطاني، كنتيجة فوريَّة لهذه الخطوة، بينما يلحق الضعف بالاقتصاد الألماني”.
من جانبه، عبَّر الخبير الاقتصادي جيروس روبيا عن اعتقاده بأنَّ “الانفصال سيؤثر سلباً في الاقتصاد الألماني، لا سيما أنَّ بريطانيا تستهلك 6 بالمئة من إجمالي صادرات ألمانيا”، مشيرا إلى أنه رغم هذه التأثيرات السلبية للطلاق البريطاني، إلا أنَّ برلين قادرة على التحكم بهذه الآثار، والتعامل معها بالشكل الصحيح.
خسائر اقتصاديَّة
يحذر تقريرٌ صادرٌعن المنظمة البحثيَّة الألمانيَّة “برتلسمان ستيفتونغ” من خسائر سوف يتكبدها الاقتصاد الألماني تتراوح قيمتها من 6.2 مليار إسترليني و41 ملياراً إسترلينياً إذا ما خرجت بريطانيا بالفعل من تحت عباءة الاتحاد الأوروبي، لكن آيرلندا ولوكسمبورغ وبلجيكا ومالطا وقبرص ستواجه كلها أيضاً خسائر اقتصاديَّة ليست قليلة، وإنَّ قطاع صناعة السيارات، الذي يعدُّ أحد أهم أعمدة الاقتصاد الألماني، ربما يكون من بين أكثر القطاعات تأثراً، وقال مسؤول بغرفة التجارة البريطانية: “إنَّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيترك قبل كل شيء تأثيرات سلبية في قطاع صناعة السيارات والشاحنات في ألمانيا، كما سيشمل قطاع الخدمات المالية والبنوك وجميع الشركات الألمانية التي تعتمد على التصدير”.
فقدان الصدارة
وسيفقد الاقتصاد الأوروبي مقامه الرفيع في صدارة اقتصاديات العالم عقب الانفصال البريطاني، إذ إنَّ اقتصاد الاتحاد الأوروبي يقعُ في المرتبة الأولى من حيث الناتج الإجمالي المحلي في قائمة البنك الدولي بما يقدر بنحو 18.46 تريليون دولار، كما تعدُّ بريطانيا شريكًا تجاريًا مهمًا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، إذ تشكل الصادرات الأوروبية لبريطانيا 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط وإنَّ 50 بالمئة من الصادرات البريطانية تذهب إلى دول أوروبا، ويتمتع الميزان التجاري بفائض تجاري لصالح الاتحاد الأوروبي، ويقدر حجم الفائض بنحو 56 مليار جنيه إسترليني، ما يعني أنَّ انفصال بريطانيا سوف يلحق ضرراً كبيراً باقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي.
يقول الخبير الألماني توماس كوستبرغ إن الجميع يركز اليوم على تحليل الأثر السلبي للأنشطة الاقتصادية الناتجة عن تراجع قيمة الجنيه الإسترليني وتعاظم التضخم، ففي الوقت الحاضر، تراجعت قيمة الجنيه الإسترليني أمام الدولار 10 بالمئة ، و6.6 بالمئة أمام اليورو، وتبعاً لذلك، أدى تراجع قيمة الجنيه الإسترليني إلى إشعال الأسعار، ما جعل التضخم يقفز الى مستويات ليست مسبوقة.
معدل التضخم
ولولا “بريكست” لظل التضخم في حدوده الطبيعيَّة، وفي وقت تنجحُ فيه دول الاتحاد الأوروبي في لجم جماح هذا التضخم لديها، يلفتُ الخبراء الأوروبيون الى أنَّ التضخم البريطاني سيكون ملفاً مستقلاً حافلاً بالمفاجآت، ويضيف الخبير أنَّ التضخم البريطاني مع تراجع قيمة الجنيه الإسترليني، لعب دوراً أساسياً في إضعاف القدرة الشرائيَّة لدى المواطنين والشركات في بريطانيا، فضلاً عن تراجع الحركة الاستهلاكية عموماً. وبالطبع، لم يكن مفعول “بريكست” مشابهاً للأزمة المالية عام 2008 التي اضطرت الأسر البريطانية الى تكثيف الادخار وتقليل الاستهلاك، بيد أنَّ نمو الحركة الاستهلاكية في الأعوام الأخيرة كان دون التوقعات، ما كان له تأثير مباشر في النمو الاقتصادي البريطاني، ويختم الخبير بقوله: “ما زالت بريطانيا جزءاً من الاتحاد الأوروبي إلى إشعار آخر لم يحدد موعده بعد، وستكون ألمانيا وفرنسا أكثر الدول الأوروبيَّة تأثراً بتطبيق “بريكست”، واللافت أنَّ بريطانيا تتصرف اليوم وكأنها خرجت فعلاً من دول الاتحاد الأوروبي، فقد رفعت اسم الاتحاد الأوروبي من جواز السفر البريطاني”.
أسعار السلع
في سياق متصل، تقول الخبيرة الألمانية أليسون فيشر من البنك الألماني “دويتشه بنك”: إنَّ ضعف قيمة الجنيه الإسترليني لم يتحول إلى منافع لصالح توطيد حركة الصادرات البريطانية، لأنَّ الأخيرة تصدر خدمات لا تتأثر بديناميكية أسعار السلع في الأسواق الدولية، وبما أنَّ القدرة الشرائيَّة للشركات قد تراجعت، لم تنجح الدول الأوروبية، ومن بينها ألمانيا، في تصدير ما كان مخططاً له إلى بريطانيا، وألمانيا تشهد تراجعاً في طلبات شراء منتجاتها من الخارج وأوضاعها التجارية مع بريطانيا غير سارة أبداً”.
وتضيف أن أسواق السلع الفاخرة في لندن تعيش حالة شبه كارثية، مع غياب لافت للمشترين الألمان الأغنياء، وتبقى هذه الأسواق متعلقة بمزاج المشترين الآسيويين، ويُعدُّ القطاع الفندقي الوحيد القادر على الصمود في وجه مصير “بريكست”، فهو بين القطاعات الأقل معاناة اليوم، وما زال يستقطب عشرات آلاف السائحين كل شهر، وبرأي فيشر، فإنَّ حالة عدم اليقين بشأن طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان لها تأثير في حركة الاستثمارات الخاصة، وفي العام 2018، ومع اقتراب موعد خروج بريطانيا من دول الاتحاد الأوروبي، باشرت الشركات الأجنبية، وبينها الألمانية، بوضع خطط الطوارئ، في حال الخروج من دون اتفاق، بدلاً من التركيز على دراسة خطط استثمارية في بريطانيا.
ويتواصل مسؤولون بريطانيون مع بروكسل لدفع الاتحاد الأوروبي نحو إجراء محادثات بشأن العلاقات بعد الطلاق، وهو ما يرفضه الاتحاد بدون الاتفاق أولاً على مشروع قانون خروج بريطانيا وغيره من قضايا الانفصال، وتواجه رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي ضغوطاً داخلية وخارجية شديدة، وكلفت “بريكست” بريطانيا حتى اليوم اكثر من 66 مليار جنيه إسترليني، كان من المفترض أنْ ينتجها اقتصادها، لكنه عجز عن ذلك جراء فصلها عن دول الاتحاد الأوروبي منذ العام 2016. ولولا هذا الانفصال لكان نمو الناتج القومي البريطاني أعلى من ذلك بكثير، ويصل إلى 2.9
بالمئة.