هل ستخلخِل أبحاثُ الدماغ المعتقِد بنيةَ النظريةِ؟
د. فارس عزيز المدرس
تكشف الأبحاث الحديثة في طبيعة الدماغ وطرق اشتغالِه على مستوى الخلية العصبية والتركيب الكميائي فيها عن حقيقة النسقِ الساري لِما كنا نعده جهداً عقلياً، أو قناعات أتت مِن التفكير المنطقي. لكن ما (نعتقده) هو عملية معقدة لا يتحكم فيها البناء المنطقي؛ إلا بوصفه طريقة اقناعية نحصن بها اعتقاداتِنا ونبررها.
أنبِّه بدايةً إلى أنَّ المقصودَ بما نسمِّيه اعتقادات هو القناعاتُ والأفكار التي نتبنّاها في أي مجالٍ؛ وأي موضوع كان؛ حتى على المستوى الشخصي. وهذه قضيةٌ واسعة؛ إلا أننا سنحاول ربطَ امتداداتِها ببناءِ النظرية؛ في مختلف العلوم، لذلك سنحتاج أولا إلى معرفةِ مفهومِ النظرية؛ على وفق معناها التقليدي.
في مفهوم النظرية
غالباً ما نسمع عن مصطلح (نظرية)، وعند الفحص تجد كثيراً مِن مستخدميه لا يملكون الحدَّ الأدنى مِن معناه. بل أنَّ فهمَهم هذا المصطلح لا يتعدّى في أحسنِ الأحوال الفهمَ الشعبي، الذي لا يفرّق بين الفرضيةِ والنظرية، لذلك يشوبُ معرفتَهم الكثيرُ مِن القصور، ويقعون ضحيةَ الخلط بين الحقيقة والافتراض.
ذكر ابنُ فارس في معنى نظر: النونَ والظاء والراء أصلٌ صحيحٌ، ترجع فروعُه إلى معنى واحدٍ وهو تأمّل الشيء ومعاينته. وعلى هذا فلا يخرج معنى (نظرَ) في المعجم العربي القديم عن: التأملِ والمُعاينة؛ لكنهما لا يعطيان تعريفاً كافياً للمصطلح. أمّا في اللغات الأوربية فـ " كلمة نظرية دخلت الإنجليزية من ترجمات القرون الوسطى لأرسطو؛ فالكلمةُ الإغريقية (Theoria) تعني مَنظراً، ثم اتسعَ معناها إلى التفكر النظري. وقد استخدمها أرسطو للتفريق بين الحقائق المُطبقة فعليّاً وبين الفرضيات. والنظريةُ لديه قضية ثبُتتْ ببرهانٍ، وهي تركيبٌ مؤلفٌ مِن تصوراتٍ منسقةٍ، تقدم وصفاً للظاهرة، والتنبؤ بمستقبلها، وتحتَملُ الصواب والدحض. وفي القرن السادس عشر أصبح مفهومُ النظريّةِ أكثر استخداماً؛ للدلالةِ على الدراسات التي اعتمدتْ على مصادر ومراجع قابلة للتحليل والتفسير. ولاحقاً تطوّر المفهومُ ليعني تصوراً، أو نسّقاً مِن الأحكام توضح مجموعةً مِن الظواهر. يبيّن الفيزيائي ستيفن هوكينغ في كتابه (تاريخ موجز للزمان) تعريفاً يقترب من تعريف الفيلسوف كارل بوبر، ومفاده: أنَّ «أي نظرية هي نظرية مقبولةٌ؛ إذا تمَثَّل فيها شرطان: أولهما أنْ تصفَ مجموعةً من المشاهدات؛ بأقل قدر ممكن مِن العشوائية. وثانيهما أنْ تطرحَ تنبؤات عن نتائج المشاهدات المستقبلية. ومهما بلغ عدد المرات التي اتفقت فيها نتائج التجارب مع نظريةٍ ما؛ فلا يمكنك التيقّن مِن أنّ النتيجةَ في المرة التالية ستكون في صالِحها.
خواص النظرية
في كتابه فهم الفيزياء Understanding Physics تحدّث إسحق أسيموف Asimov, Isaac عن النظريات؛ وأنها افتراضات لا نقبلُ بها دون برهان، لكن ليس من الصواب أنْ نصفها بأنها خاطئة؛ ما لم نجد طريقةً لإثباتِ خطئها. وأيُّ تنبؤات لا يمكن إخضاعها للاختبار تكون عقيمة. والنظريات الجيدةُ يجب أنْ تكون مبتكرةً؛ وأنْ تتوافرَ فيها الخصائص التالية:
1 - الوحدة: فالنظريات الجيدة تتكون من إستراتيجية التكامل والوحدة بين أجزائها.
2 - الخصوبة: أيُّ نظريةٍ عظيمة تفتح أفقاً للبحث العلمي؛ لأنها تقدّم رؤيةً جديدة للعالم.
3 - تلازم أكثرَ النظريات متانةً صفاتُ: العمقُ والبساطة والجمال؛ بينما النظريات التي يكتنفها التعقيد مآلُها الفشل، ولا أحدَ يستطيع أنْ يعللَ هذه الظاهرة، لكننا نجدها ملازمةً لأغلب النظريات العظيمة.
وهذه الخصائص أقربُ إلى نظريات العلوم الطبيعية؛ والمعايير التي تنطبق على العلوم الإنسانية قد تختلف في قسم مِن شروطها عنها؛ لكن في كلّ منهما يكون التماسكُ وقلةُ العشوائية أساساً في متانة النظرية. يتوهّم قسمٌ مِن الناس أنه بمجرد أنْ يطرحَ فكرةً تخالف المألوف مِن الأفكار والتصورات فهو بصددِ بناءِ نظريةٍ مفروغٍ مِن صحتِها. وهذا الحالُ متفشٍ في العلوم الإنسانية عامةً، وهو منتشر في ثقافتنا العربية، وكثيرٌ مِن الذين يدعّونَ النظريةَ يقطعون بالأحكام، ويتمسكون بالإعمام، ويصادرون إمكانية المراجعة والتعقيب. وحتى على المستوى اللغوي تجد الحسْمَ والقطعَ لديهم أكثر الألفاظ استعمالاً.
بؤس النظرية
ما مرّ مِن كلام يصبُّ في البناء الايجابي لمفهوم النظرية، لكنْ هل الشروطُ التي في النظرية تعصِمها مِن الانقلابِ على نفسها، وتتحوّل إلى عنصر ركود وتحطيمٍ للوعي؟ في الحقيقة نعم. والبؤسُ الذي يلازم النظرية نابعٌ من:
1 - خضوعها لمعيار ذاتي؛ يعزز أو يدعم النزوع الإيديولوجي بمختلف صنوفه.
2 - أيَّ تعاطٍ للعلم نابعٌ مِن فعلِ الإرادة، والإرادةُ قد تستغل النظرية لصالحها. وبذلك ليس من الصواب التسليم بالنقاء الأخلاقي لأيّ نظرية؛ ما لم نتأكد من وجوده، فالغش في النظرية واردٌ، وهو أكثر سلبية من الخطأ.
3 - للمدرسية فائدتها؛ لأنها تؤسّس منهجاً مِن شأنه إحداثُ ضبطٍ منهجي تُلزم به أتباعَها. لكن الذي يحدث أحياناً تحوّلُ المدرسيةِ إلى نسَقٍ يتمسّك به أصحابُه، ولا يحيدون عنه، على الرغم مِن تفكك بنائه النظري. وبذلك تتحول القداسةُ في المدرسيّة إلى وبالٍ على النظرية؛ طال الأمدُ أم قصُر.
4 - يُسهم البعض في تفشّي النظرية العاجزة، مع أنهم قد يوقنون ببطلانها ولا جدواها؛ فمثلا ظل قسم من الناس يمجّدون نظرياتٍ دعت إلى خلع الأدب عن وظيفته، محتجين بالهدف الجمالي وبحرية الكاتب. لكنهم وبعد قرن تنكروا لها؛ ليس لشيء؛ سوى لظهور نظريات جديدة؛ وجدوها تدرّ عليهم نفعاً. وهؤلاء يتسببون في تدمير معطيات المعرفة، لكن هل هم راضونَ بالكذب أو الخطأ، أمْ هم لم يكونوا يرونه كذباً أو خطأً أصلاً. 5 - الترقيع مقبرةٌ أي نظرية لا يجد أصحابها أو مريدوها ما يثبتها؛ فيحاولون تمريرها بفرضيات وآراء سابقة، أو أدلة مشابهة، لينقذوها من الفشل. وللترقيع صلة بطرق اشتغال الدماغ المعتقِد، وبالإرادة وبالتحايل على المنطق، ولا شيء يربطها بمعطيات العلم.
الدماغ المعتقِد
في كتابه (الله والدماغ.. عقلانية الاعتقاد) يقول كيلي جيمس: لسنا قادرين على التفكير في الحقائق الواقعية فحسب، بل نحن مجهزون للتفكير بطريقة معاكسة للواقع تماماً. وهذا ما حمل العلماءَ على أنْ يفكروا في مدى احتمالية أنْ يكون الواقع مُختلفاً عن الحقيقةِ التي نتغاضى عنها عامدين، حتى وإنْ لم نعِ أننا عامدون، وهذا يعني أنَّ للإرادةِ دورا كبيرا في إثبات الحقائق أو تدميرها، وكذلك الموقف من أيِّ نظرية.
إنَّ الأبحاثَ الحديثة في طبيعة الدماغ وطرق اشتغاله باتت بالفعل تهدد النسق الساري حول ما نعدّه اعتقادات موضوعية. وليس المقصود الاعتقادات الدينية حصرا؛ والتعريف الأقرب هو القناعات والأفكار. لذا من الممكن أنْ تتعرض نظرية المعرفة وبنية النظرية للخلخلة؛ فيما لو تم بالفعل إثبات أنّ القناعات والأفكار والأخلاقيات أغلبها مَحض عملياتٍ فسلجية ذات طبيعة كيميائية، تتستر بالغلاف المنطقي؛ بينما اشتغالها الحقيقي مِن مصدر آخر.
أي أنَّ العقلَ يقنع نفسَه بأنه يفكر ويعتقد؛ بينما هو يخضع ويبرر ليس إلا. أمَّا لصالح مَن أو (ما)؛ فتلك قضيةٌ أخرى. والكلامُ أعلاه لا يتعلق بالتفكير الشخصي ولا بنظريات العلوم الإنسانية فحتى النماذج الفيزيائية التي يستخدمها العلماء لتفسير الضوء كجسيم أو كموجة هي اعتقادات، تتشكل عندما ترتبط بنظريات كونيَّة أعلى. وستكون الواقعيَّة المُعْتَقِدة بمنزلة شكل أعلى من الواقعية المعتمِدة على أنموذج نظريةٍ ناتجة عن ميولنا القبْلية والتي تشكل تحالفات مع مَن يتبنّون تفكيرنا، وشيطنة آراء من يخالفوننا ونصمها بأنها عبثيَّة.
وهذا يجعل أدمغتنا صعبة المراس إزاء التغير. أما كيفية معرفة أي الاعتقادات سليمة، وأيٍّ خاطئة فتلك معضلة، لكن نظرية الدماغ المعتقِد لها مرتكزات أخرى لن تسمح لشطط الافتراضات والنسبية أنْ تتجاوز حدودها؛ لأنها ستعرف آلية اشتغال الدماغ المعتقِد وحيله التي لا تنتهي. وسنفهم كيف تقنعنا العمليات الإدراكية بأنَّ اعتقاداتِنا ليست عقلية بالمفهوم التقليدي للعقل.
طرح مايكل شيرمر في كتابه (الدماغ المعتقِد) معلوماتٍ عن حقيقة اشتغال الدماغ؛ وهو لا يناقش (الاعتقادات)؛ ليبيّن صدقها مِن كذبها، بل ينزل إلى دقائقِ تشكيلِ الاعتقاد على مستوى بايولوجي، ليكتشفَ بالتالي براءة العقل مِن الجرائر التي يرتكبها على الرغم منه. مما يحدونا إلى إعادة النظر في اليقينيات لا بوصفها يقينيات؛ بل بطرق تشكّلها وارتساخها في الأذهان على أنها مسلمات قطعية.
وهو لا يعني بهذا الاعتقاداتِ الدينية، بل كلَّ اعتقاد، بما في ذلك اعتقاداتنا في مجال الأخلاق والعلوم الطبيعية والعلاقات الاجتماعية وسلوكياتنا الفردية. يقول شيرمر: " أرى أنَّ الحقيقةَ نادرةُ الوضوحِ والكمال؛ فما أريد أنْ اعتقدَ به مَبنيٌّ على العواطف، وما يجب الاعتقادُ به مبني على الأدلة، وهما لا يتوافقان على الدوام... إننا نعيش في عصر مِن المفترض أنْ تستندَ الاعتقاداتُ فيه على أدلةٍ صارمة وبيانات تجريبية؛ فلماذاً يعتقد الكثيرُ من الناس بما يعدّه معظمُ العلماء غير قابل للاعتقاد؟ ".
وخلال كتابه الذي يناهز خمسمئة صفحة ينتهي إلى ملاحظاتٍ مخيفة تقلب موازين المسلمات العقلية، لا بسبب كونها مسلمات هشّة أو ثبت بطلانها بل من حيث طرق تشكّلها ودوافع ظهورها ورسوخها؛ بخلاف ما نراه في الظاهر.
إنّ ما كتبه شيرمر خطيرٌ للغاية؛ فيما لو تمّت توسعته ليشمل الكثيرَ من النظريات التي طرحها الإنسان. ورؤيته تتلخّص بضرورة النظر فيما وراء النظر، فماذا يعني هذا؟ يعني أنَّ قسماً من الأبحاث الحديثة يفوق النسقَ الساري للثقافة البشرية التقليدية، وإننا قابَ قوسين أو أدنى من نزع القدسية عن العقل الذي مرّت ألوفُ من السنين ونحن مهووسون به، فماذا لو توفّرت لنا أدواتٌ ومناهجُ نميّز بها بين العمليات العقلية؟، لنفرزَ ما هو غير عقلي؛ حتى في المقررات العقلية العليا! حينها ستنقلب الأحوالُ ومن العسير أنْ نقبلَ بتعريفات النظرية، وحتى ما ندّعيه مِن مناهج كنّا نراها علْمية.